ولكن يوسف كان يريد أن يلقي عليهم درسا . وكان يريد أن يشوقهم إلى المفاجأة التي يعدها لهم ولوالده وللجميع ! ليكون وقعها أعمق وأشد أثرا في النفوس :
( قال : معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده . إنا إذن لظالمون ) . .
ولم يقل معاذ الله أن نأخذ بريئا بجريرة سارق . لأنه كان يعلم أن أخاه ليس بسارق . فعبر أدق تعبير يحكيه السياق هنا باللغة العربية بدقة :
( معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده ) وهي الحقيقة الواقعة دون زيادة في اللفظ تحقق الاتهام أو تنفيه .
وكانت هي الكلمة الأخيرة في الموقف . وعرفوا أن لا جدوى بعدها من الرجاء ، فانسحبوا يفكرون في موقفهم المحرج ، أمام أبيهم حين يرجعون .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نّأْخُذَ إِلاّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنّآ إِذاً لّظَالِمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : قال يوسف لإخوته : مَعاذَ اللّهِ أعوذ بالله . وكذلك تفعل العرب في كل مصدر وضعته موضع يَفْعَل ويَفْعِل ، فإنها تنصب ، كقولهم : حمدا لله وشكرا له ، بمعنى : أحمد الله وأشكره والعرب تقول في ذلك : معاذ الله ، ومعاذة الله ، فتدخل فيه هاء التأنيث كما يقولون : ما أحسن معناه هذا الكلام ، وعوذ الله ، وعوذة الله ، وعياذ الله ويقولون : اللهمّ عائذا بك ، كأنه قيل : أعوذ بك عائذا ، أو أدعوك عائذا . أنْ نَأْخُذَ إلاّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ يقول : أستجير بالله من أن نأخذ بريئا بسقيم . كما :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق : قالَ مَعاذَ اللّهِ أنْ نَأْخُذَ إلاّ مَنْ وَجَدْنا متَاعَنا عِنْدَهُ إنّا إذًا لَظالِمُونَ يقول : إن أخذنا غير الذي وجدنا متاعنا عنده أنا إذا نفعل ما ليس لنا فعله ، ونجور على الناس .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمرو ، عن أسباط ، عن السديّ : قالُوا يا أيّها العَزِيزُ إنّ لَهُ أبا شَيْخا كَبِيرا فَخُذْ أحَدَنا مَكانَهُ إنّا نَرَاكَ مِنَ المُحْسنِين قالَ مَعاذَ اللّهِ أنْ نَأْخُذَ إلاّ مَنْ وجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إنّا إذًا لَظالِمُونَ قال يوسف : إذا أتيتم أباكم فأقرئوه السلام ، وقولوا له : إن ملك مصر يدعو لك أن لا تموت حتى ترى ابنك يوسف ، حتى يعلم أن في أرض مصر صدّيقين مثله .
و { معاذ } نصب على المصدر ، ولا يجوز إظهار الفعل معه ، والظلم في قوله : { الظالمون } على حقيقته ، إذ هو وضع الشيء في غير موضعه ، وذكر الطبري أنه روي أن يوسف أيأسهم بلفظه هذا ، قال لهم : إذا أتيتم أباكم فاقرأوا عليه السلام ، وقولوا له : إن ملك مصر يدعو لك ألا تموت حتى ترى ولدك يوسف ، ليعلم أن في أرض مصر صديقين مثله .
{ معاذ } مصدر ميمي اسم للعوْذ ، وهو اللجَأ إلى مكان للتحصن . وتقدم قريباً عند قوله : { قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي } [ سورة يوسف : 23 ] .
وانتصب هذا المصدر على المفعولية المطلقة نائباً عن فعله المحذوف . والتقدير : أعوذ بالله مَعاذاً ، فلما حُذف الفعل جعل الاسم المجرور بباء التعدية متصلاً بالمصدر بطريق الإضافة فقيل : معاذَ اللّهِ ، كما قالوا : سبحان الله ، عوضاً عن أسبح الله . والمستعاذ منه هو المصدر المنسبك من أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده } . والمعنى : الامتناع من ذلك ، أي نلجأ إلى الله أن يعصمنا من أخذ من لا حق لنا في أخذه ، أي أن يعصمنا من الظلم لأن أخذ من وُجِد المتاع عنده صار حقاً عليه بحكمه على نفسه ، لأن التحكيم له قوة الشريعة . وأما أخذ غيره فلا يسوغ إذ ليس لأحد أن يسترقّ نفسه بغير حكم ، ولذلك علل الامتناع من ذلك بأنه لو فعله لكان ذلك ظلماً .
ودليل التعليل شيئان : وقوع { إنّ } في صدر الجملة ، والإتيانُ بحرف الجزاء وهو { إذن } .
وضمائر { نأخذ } و { وجدنا } و { متاعنا } و { إنا } و { لظالمون } مراد بها المتكلم وحده دون مشارك ، فيجوز أن يكون من استعمال ضمير الجمع في التعظيم حكاية لعبارته في اللغة التي تكلم بها فإنه كان عظيم المدينة . ويجوز أن يكون استعمل ضمير المتكلم المشارك تواضعاً منه تشبيهاً لنفسه بمن له مشارك في الفعل وهو استعمال موجود في الكلام .
ومنه قوله تعالى حكاية عن الخضر عليه السلام { فخشينا أن يرهقهما طغياناً وكفراً فأردنا أن يبدلهما ربهما } الآية من سورة الكهف ( 80 ) .
وإنما لم يكاشفهم يوسف عليه السلام بحاله ويأمرهم بجلب أبيهم يومئذٍ : إمّا لأنه خشي إن هو تركهم إلى اختيارهم أن يكيدوا لبنيامين فيزعموا أنهم يرجعون جميعاً إلى أبيهم فإذا انفردوا ببنيامين أهلكوه في الطريق ، وإما لأنه قد كان بين القبط وبين الكنعانيين في تلك المدة عداوة فخاف إن هو جلَب عَشيرته إلى مصر أن تتطرق إليه وإليهم ظنون السوء من ملك مصر فتريّث إلى أن يجد فرصة لذلك ، وكان الملك قد أحسن إليه فلم يكن من الوفاء له أن يفعل ما يكرهه أو يسيءُ ظنه ، فترقب وفاة الملك أو السعي في إرضائه بذلك ، أو أراد أن يستعلم من أخيه في مدة الانفراد به أحوال أبيه وأهلِهم لينظر كيف يأتي بهم أو ببعضهم ، وسنذكره عند قوله : { قال هل عَلمتم ما فعلتم بيوسف } [ سورة يوسف : 89 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قال} يوسف: {معاذ الله}، يقول: نعوذ بالله {أن نأخذ}، يعني أن نحبس بالسرقة {إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون} أن نأخذ البريء مكان السقيم.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قال يوسف لإخوته:"مَعاذَ اللّهِ": أعوذ بالله...
"أن نَأْخُذَ إلاّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ" يقول: أستجير بالله من أن نأخذ بريئا بسقيم... "إنّا إذًا لَظالِمُونَ "يقول: إن أخذنا غير الذي وجدنا متاعنا عنده إنا إذا نفعل ما ليس لنا فعله، ونجور على الناس...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
(قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ) قيل: هذا قول يوسف: (معاذ الله) أي أعوذ بالله أن نأخذ، ونحبس، بالسرقة (إلا من وجدنا متاعنا عنده).
[فإن قيل: كيف تعوذ على ترك أخذه وأخذ غيره مكانه، ولم يكن وجب له حق الأخذ، إذ لم تكن سرقة، وإنما يتعوذ على ترك ما لا يسع تركه؟ قيل: إنه لم يتعوذ على ترك أخذ أخيه، إنما تعوذ على غير ما وجد المتاع عنده.
(إنا إذا لظالمون) عندكم لو أخذنا غير من وجدنا متاعا عنده. إذ في حكمهم أخذ من سرق بالسرقة والحبس بها، والله أعلم.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
"مَعَاذَ الله" هو كلام موجه، ظاهره: أنه وجب على قضية فتواكم أخذ من وجد الصواع في رحله واستعباده، فلو أخذنا غيره كان ذلك ظلماً في مذهبكم، فلم تطلبون ما عرفتم أنه ظلم؟ وباطنه: إنّ الله أمرني وأوحى إليّ بأخذ بنيامين واحتباسه لمصلحة أو لمصالح جمة علمها في ذلك، فلو أخذت غير من أمرني بأخذه كنت ظالماً وعاملاً على خلاف الوحي.
فإن قيل: هذه الواقعة من أولها إلى آخرها تزوير وكذب، فكيف يجوز من يوسف عليه السلام مع رسالته الإقدام على هذا التزوير والترويج وإيذاء الناس من غير سبب لا سيما ويعلم أنه إذا حبس أخاه عند نفسه بهذه التهمة فإنه يعظم حزن أبيه ويشتد غمه، فكيف يليق بالرسول المعصوم المبالغة في التزوير إلى هذا الحد.
والجواب: لعله تعالى أمره بذلك تشديدا للمحنة على يعقوب ونهاه عن العفو والصفح وأخذ البدل كما أمر تعالى صاحب موسى بقتل من لو بقي لطغى وكفر.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
فكأنه قيل: فما أجابهم؟ قيل: {قال معاذ الله} أي نعوذ بالذي لا مثل له معاذاً عظيماً {أن نأخذ} أي لأجل هذا الأمر {إلا من} أي الشخص الذي {وجدنا متاعنا عنده} ولم يقل: سرق متاعنا، لأنه -كما أنه لم يفعل في الصواع فعل السارق- لم يقع منه قبل ذلك ما يصحح إطلاق الوصف عليه؛ علل ذلك بقوله: {إنا إذاً} أي إذا أخذنا أحداً مكانه {لظالمون} أي عريقون في الظلم في دينكم، فلم تطلبون ما هو ظلم عندكم.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
ولكن يوسف يتمسك بحكم الشريعة، فلا يريد أن يتجاوز حرفيّة النص لأنه لا يوافق على ذلك ولا يجد مبرّراً له. أما العاطفة، فإنها لا تمثل شيئاً أمام تطبيق الشريعة، والاستسلام لها قد يعطّل حالة التوازن في العدالة التي يريدها الله لعباده، في أحكام شريعته. {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} لأن هذا من الظلم الذي لا نوافق على اقترافه، {إِنَّآ إِذًا لَّظَالِمُونَ} وهذا ما لا يمكن أن نتحمل مسؤوليته أمام الله. وهكذا حسم يوسف المسألة فلم يترك لهم مجالاً للأخذ والرد.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
أمّا يوسف فإنّه قد واجه هذا الطلب بالإنكار الشديد و (قال معاذ الله أن نأخذ إلاّ من وجدنا متاعنا عنده) فإنّ العدل والإنصاف يقتضي أن يكون المعاقب هو السارق، وليس بريئاً رضي بأن يتحمّل أوزار عمل غيره، ولو فعلنا لأمسينا من الظالمين (إنّا إذاً لظالمون). والطريف أنّ يوسف لم ينسب لأخيه السرقة وإنّما عبّر عنه ب (من وجدنا متاعنا عنده). وهذا برهان على السلوك الحسن والسيرة المستقيمة التي كان ينتهجها يوسف في حياته.