فكأنه قيل : فما أجابهم ؟ قيل{[42361]} : { قال معاذ الله } أي نعوذ بالذي لا مثل له معاذاً عظيماً { أن نأخذ } أي لأجل هذا الأمر { إلا من } أي الشخص الذي { وجدنا متاعنا عنده } ولم يقل : سرق متاعنا ، لأنه - كما أنه لم يفعل في الصواع فعل السارق - لم يقع منه قبل ذلك ما يصحح إطلاق الوصف عليه ؛ علل ذلك بقوله : { إنا إذاً } أي إذا أخذنا أحداً مكانه { لظالمون * } أي عريقون{[42362]} في الظلم في دينكم ، فلم تطلبون ما هو ظلم عندكم .
ذكر ما بعد ما سلف من هذه القصة من التوراة{[42363]}
قال : وكان{[42364]} القهم{[42365]} - وفي نسخة : الجوع - والإرجاف{[42366]} على جميع وجه الأرض ، ففتح يوسف الأهراء ، وأقبل يبيع المصريين ، واشتد الجوع{[42367]} بأرض مصر ، وأقبل جميع أهل الأرض{[42368]} يأتون للامتيار من يوسف{[42369]} .
{[42370]} فبلغ يعقوب عليه الصلاة والسلام أن بمصر طعام ميرة ، فقال يعقوب عليه السلام لبنيه : لا خوف عليكم ، لأنه قد بلغني أن بمصر ميرة فاهبطوا إلى هناك ، فامتاروا لنا فنحيى ولا نموت . فهبط بنو يعقوب عليه الصلاة والسلام العشرة ليمتاروا ميرة من مصر ، فأما بنيامين أخو يوسف فلم يرسله يعقوب{[42371]} مع إخوته ، لأنه قال : لعله أن يعرض له عارض ، فأتى بنو إسرائيل ليمتاروا{[42372]} مع الذين كانوا ينطلقون ، لأن الجوع اشتد في أرض كنعان ، وكان يوسف هو المسلط على الأرض ، وكان يمير{[42373]} جميع شعب الأرض ، فأتى إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام فخروا له سجداً على الأرض ، فرأى يوسف إخوته فأثبتهم وتناكر{[42374]} عليهم وكلمهم بفظاظة وقساوة ، وقال لهم : من أين أنتم ؟ فقالوا : أتينا من أرض كنعان لنمتار ميرة ، فذكر يوسف عليه الصلاة والسلام{[42375]} الرؤيا التي قصها عليهم وقال لهم : إنكم جواسيس ، وإنما أتيتم لتفحصوا{[42376]} وتطلعوا{[42377]} الأرض . فقالوا : كلا يا سيدنا ! إن عبيدك إنما أتوا ليمتاروا ، نحن أجمعون بنو{[42378]} رجل واحد ، ونحن أبرياء ، وليس عبيدك بطلائع ، فقال لهم يوسف : ليس{[42379]} الأمر كما تقولون ، بل إنما{[42380]} أتيتم لتجسسوا{[42381]} أرضنا . فقالوا له : نحن اثنا{[42382]} عشر رجلاً إخوة عبيدك{[42383]} بنو رجل واحد بأرض كنعان ، والآخر هو عند{[42384]} أبينا يومنا هذا ، والآخر فقدناه ، فقال لهم يوسف : إني إنما قلت لكم : إنكم جواسيس ، من أجل{[42385]} هذا بهذه تمتحنون{[42386]} ، وحق فرعون !{[42387]} لا أخرجنكم{[42388]} من هاهنا{[42389]} حتى يأتي أخوكم{[42390]} الأصغر إلى هاهنا . فنفحص عن أقاويلكم إن كنتم نطقتم بالحق والقسط ، وإلا وحق فرعون ! إنكم طلائع{[42391]} ، فقذفهم في الحبس ثلاثة أيام ، ودعا بهم يوسف عليه الصلاة والسلام في اليوم الثالث ، وقال لهم : افعلوا ما آمركم{[42392]} به فتحيوا ، فإني أراقب الله فيكم ، إن كنتم أبرياء فليحبس أحدكم في محبسكم{[42393]} وانطلقوا أنتم بالميرة للجوع الذي في بيوتكم ، فأتوني بأخيكم الأصغر فأصدق قولكم ولا تموتوا ، ففعلوا{[42394]} كما أمرهم ، فقال كل امرىء منهم{[42395]} لصاحبه : حقاً إنا قد استوجبنا السجن على أخينا إذ رأينا كرب نفسه إذا{[42396]} كان يتضرع إلينا فلم نرحمه ولم نتراءف عليه ، فمن أجل ذلك نزلت بنا هذه البلية والشر ، فأجاب روبيل وقال لهم : ألم أقل لكم : لا تأثموا بالغلام ، فلم تقبلوا ، وهو ذا الآن نحن مطالبون بدمه .
ولم يعلموا أن يوسف يفهم كلامهم ، لأنه أوقف ترجماناً بينه وبينهم ، فتنحى عنهم فبكى ، ثم رجع إليهم يكلمهم ، ثم أخذ منهم شمعون فأوثقه{[42397]} تجاههم .
وأمر يوسف بملء أوعيتهم ميرة ، وأمر برد ورق كل امرىء منهم في وعائه ، وأن يزودوا زاداً للطريق ، ففعل ذلك بهم كما أمر يوسف عليه السلام ، فحملوا{[42398]} ميرتهم على حميرهم وانطلقوا ، ففتح بعضهم وعاءه ليلقي قضيماً{[42399]} لحماره في مبيتهم{[42400]} . فرأى ورقه موضوعاً على طرف حمولته . فقال لإخوته : ورقي رد إليّ وهو ذا{[42401]} على طرف حمولتي ، فارتجفت قلوبهم وفزعت نفوسهم ، وتعجب كل امرىء منهم ، فقالوا : يا ليت شعري ما هذا الذي{[42402]} صنعه الله{[42403]} بنا ! فأتوا يعقوب أباهم إلى أرض كنعان ، فأخبروه بجميع ما عرض{[42404]} لهم وقالوا : إن الرجل سيد الأرض كلمنا بفظاظة وقساوة . وحسبنا{[42405]} بمنزلة الجواسيس أتينا لنطالع الأرض ، فقلنا : إنا أبرياء عدول ، فلسنا بطلائع ، فنحن اثنا{[42406]} عشر أخاً بنو أب واحد ، فقد واحد منا والآخر عند أبينا يومنا هذا بأرض كنعان ، فقال لنا الرجل سيد الأرض ورئيسها : بهذا أعلم بأنكم أبرار عدول ، خلفوا عندي أحد إخوتكم ، واحملوا ميرة للجوع الذي في بيوتكم . وانصرفوا فأتوني بأخيكم الأصغر معكم ، فأعلم حينئذ أنكم لستم بطلائع ، بل أنتم أبرياء عدول ، وآمر بدفع أخيكم إليكم ، وتتجرون{[42407]} في الأرض ، فبينما هم يفرغون أوعيتهم فإذا هم بصرة كل امرىء منهم على طرف وعائه فرأوا ورقهم مصروراً ففزعوا{[42408]} هم وأبوهم . فقال لهم أبوهم : إنكم قد أثكلتموني{[42409]} ولدي{[42410]} وأفقدتموني{[42411]} إياهما ، لأن يوسف فقدته . وشمعان{[42412]} محبوس ، وتنطلقون ببنيامين{[42413]} أيضاً وقد{[42414]} كملت عليّ{[42415]} المصائب كلها ، فقال روبيل لأبيه : ثكلتُ ابني جميعاً إن لم آتك{[42416]} به ! ادفعه إليّ وأنا أرده إليك ، فقال : لا يهبط ابني معكم ، لأن أخاه يوسف توفي وهو وحده الباقي لأمه ، فتعرض{[42417]} له آفة في الطريق الذي تسلكونه فتنزلون شيبتي{[42418]} إلى الجدث{[42419]} بالشقاء والشحب{[42420]} .
فاشتد الجوع على الأرض ، فلما أكلوا الذي أتوا به{[42421]} من مصر{[42422]} وأفنوه قال لهم يعقوب أبوهم عليه السلام : اهبطوا فامتاروا لنا شيئاً من قمح ، فقال له{[42423]} يهوذا : إن الرجل أنذرنا وتقدم إلينا وقال : لا تعاينوا وجهي إلا وأخوكم معكم ، فإن أنت أرسلت أخانا معنا فإنا نهبط فنمتار ، وإن لم تبعثه لم ننطلق ، فقال لهم أبوهم : ولم{[42424]} أسأتم إلي فأخبرتم الرجل أن لكم أخاً ؟ فقالوا : الرجل سأل عنا وعن رهطنا وقال : إن أباكم{[42425]} في الحياة بعد ؟ وهل لكم أخ ؟ فأخبرناه من أجل هذا الكلام ، أكنا نعلم أنه يقول : اهبطوا معكم بأخيكم ؟ وقال يهوذا لإسرائيل أبيه : سرح الغلام فننطلق فنحيى ولا نموت نحن{[42426]} وأنت أيضاً وحشمنا{[42427]} ، أنا أكفل به .
فإن لم آتك به فأقيمه بين يديك فأنا مخطىء بين يدي أبي جميع الأيام .
فقال أبوهم إسرائيل : إذا كان الأمر هكذا فافعلوا ما آمركم به : احملوا في أوعيتكم من ثمار هذه الأرض شيئاً من صنوبر وعسل وعلك البطم وخروب وحب السرو{[42428]} وبطم ولوز ، وخذوا من الورق ضعف{[42429]} الذي في أوعيتكم ، لعل ذلك أن يكون وهماً منهم{[42430]} ، وانطلقوا بأخيكم إلى الرجل ، وارجعوا إليّ كلكم ، وإله{[42431]} المواعيد يظفركم من الرجل برحمة ورأفة ، فيرسل بأخيكم الآخر معكم وبنيامين أيضاً ، فأخذ القوم هذه الهدية وضعفاً{[42432]} من الفضة ، وانطلقوا معهم ببنيامين{[42433]} وأتوا يوسف فوقفوا بين يديه{[42434]} . فرأى يوسف بنيامين معهم فقال لحاجبه : أدخل القوم إلى المنزل ، واذبح ذبيحاً ، وهيىء الغداء{[42435]} ، لأن القوم يتغدون معي ظهراً ، ففعل العبد كما أمره يوسف عليه السلام ، وأدخل القوم إلى منزل يوسف عليه السلام وقالوا : إنهم إنما يدخلوننا لسبب{[42436]} الورق الذي وجدنا في أعدالنا من قبل ، فيريدون أن يتطاولوا علينا ويمكروا بنا ، فيجعلونا عبيداً ودوابنا ملكاً ، فدنوا من الرجل حاجب - وفي نسخة : خازن - يوسف عليه السلام . فكلموه على باب المنزل ، وقالوا له : إنا نطلب إليك يا سيدنا أنا هبطنا أولاً إلى هاهنا فامترنا قمحاً{[42437]} ، فلما طلعنا وصرنا في البيت إذا{[42438]} نحن بورق كل واحد منا في عدله ، فقد رددنا أوراقنا بوزنها معنا{[42439]} وأتينا معها بأوراق أخر لنمتار بها ، ولا نعلم من الذي صيّر أوراقنا في أوعيتنا ؟ فقال لهم : السلام لكم ، لا تخافوا ولا تستوفضوا{[42440]} ، إلهكم إله المواعيد إله أبيكم ذخر{[42441]} لكم هذه الذخيرة في أوعيتكم ، لأن ورقكم قد صار في قبضتي ، وأخرج إليهم شمعون{[42442]} ، فأدخل العبد القوم إلى منزل يوسف عليه السلام ، وأتاهم بماء فغسلوا أيديهم وأقدامهم ، وألقى قضيماً لدوابهم ، فأعد القوم هديتهم قبل دخول يوسف عليه السلام وقت القائلة{[42443]} لأنه بلغهم أن غداءهم{[42444]} يكون هناك ، فدخل يوسف إلى منزله ، فأدخلوا هديتهم فوضعوها بين يديه في منزله ، وخروا له سجداً على الأرض ، فسألهم عن سلامتهم وقال : أسالم{[42445]} هو{[42446]} ؟ أبوكم الذي أخبرتموني عنه أنه في الحياة هو بعد ؟ فقالوا : إن أبانا عبدك سالم ، ثم جثوا فسجدوا فرفع بصره{[42447]} فأبصر بنيامين أخاه ابن أمه فقال لهم : هذا أخوكم الذي أخبرتموني عنه ؟ فقالوا : نعم ؟ فقال له{[42448]} : الله يترأف عليكم يا بني ، فاستعجل يوسف عليه السلام لأنه{[42449]} رق له وتحنن عليه فأراد البكاء ، فدخل إلى{[42450]} مكانه فبكى هناك ، ثم غسل وجهه وخرج فصبر نفسه ، فأمر أن يأتوهم بالغداء ، فوضعوا بين يديه وحده ، وقربوا إليهم وحدهم ، لأنه لا يستطيع أهل مصر أن يأكلوا مع العبرانيين ، لأن هذه نجاسة عند المصريين ، فأمر فاتكأ الأكبر على قدر سنه والأصغر على قدر سنه ، فتعجب القوم ومكثوا محيرين مشدوهين{[42451]} ، فأعطى كل واحد{[42452]} منهم من بين يديه جزءاً ، وأعطى بنيامين أكثر منهم : خمسة أنصبة{[42453]} ، فشربوا{[42454]} .
فأمر خازنه وقال له : أوقر أوعية القوم من البر ما أمكنهم حمله ، وصير{[42455]} ورق كل امرىء منهم على طرف وعائه ، وخذ طاسي طاس{[42456]} الفضة وصيره في وعاء الأصغر مع ورق ميرته ، ففعل العبد كما أمر يوسف عليه السلام ، فلما كان من الغد{[42457]} سرح القوم لينطلقوا هم وحميرهم{[42458]} ، فخرجوا من القرية ، وقبل أن يخرجوا منها قال يوسف لخازنه : قم فامض في طلب القوم وألحقهم وقل لهم : لم كافيتم الشر بدل الخير ، فأخذتم الطاس الذي يشرب فيه سيدي ويعتاف فيه اعتيافاً ، فأسأتم فيما جاء منكم ، فلحقهم وقال لهم هذه الأقاويل ، فقالوا له : لا تقولن يا سيدنا هذه الأقاويل ، معاذ الله أن يفعل عبيدك هذه الفعال ! نحن رددنا أوراقنا التي وجدنا في أوعيتنا من أرض كنعان ، فكيف نسرق من بيت سيدك ذهباً أو فضة ، من وجد عنده من عبيدك{[42459]} فليمت ونكن نحن عبيداً لسيدنا{[42460]} ! قال لهم : هو على ما تقولون ، من وجد عنده فهو يكون لي عبداً ، وأنتم تكونون فلحين طاهين ، فاستعجل كل منهم وعاءه ، ففتشوا ابتداء بالأكبر وانتهاء إلى الأصغر ، فوجدوا الطاس في وعاء{[42461]} بنيامين ، فمزقوا ثيابهم وخرقوها{[42462]} . وحمل كل امرىء منهم وعاءه على حماره ، ورجعوا إلى القرية ، فدخل يهوذا وإخوته على يوسف وكان في منزله بعد ، فخروا بين يديه على الأرض ، فقال لهم يوسف : ما هذا الفعل الذي جاء منكم ؟ أما تعلمون أن رجلاً مثلي يعتاف - وفي نسخة : يمتحن - بكأس اعتيافاً{[42463]} ؟ لم تتعدون عليه وتأخذونه ؟ فقال يهوذا : بماذا نكلم سيدنا ! وبماذا ننطق ! وبماذا نفلح{[42464]} - وفي نسخة : نحتج{[42465]} - من عند الله نزلت هذه الخطيئة{[42466]} بعبيدك ، هوذا{[42467]} نحن عبيد لسيدنا نحن ومن أصيب الكأس عنده ، فقال : معاذ الله أن أفعل هذا ! بل الرجل الذي وجد الكأس عنده يكون لي عبداً ، وأنتم فاصعدوا بسلام إلى أبيكم .
فدنا منه يهوذا فقال : أنا أطلب إليك يا سيدي{[42468]} أن تأذن لعبدك بالكلام بين يديك ، يا سيد ! ولا تشعل غضبك على عبيدك ، لأنك مثل فرعون ، سأل سيدي عبيده فقال لهم : هل لكم أب أو أخ ؟ فقلنا لسيدنا : إن لنا أباً شيخاً وابناً له صغيراً ولد على كبر سنه ، وإن أخاه مات ، وهو الباقي وحده لأمه ، وأبوه يحبه ، وأمرت عبيدك وقلت : اهبطوا به إليّ حتى أعرفه وأعاينه ، فقلنا لسيدنا : لا يقدر الغلام على مفارقة أبيه ، لأنه إن فارقه{[42469]} أبوه توفي ، فقلت لعبيدك : إنه لم يهبط أخوكم الأصغر معكم فلا تعودوا أن تعاينوا وجهي ، فلما صعدنا إلى عبدك أبينا أخبرناه{[42470]} بقول سيدنا فقال لنا عبدك أبونا :{[42471]} ارجعوا فامتاروا شيئاً من بر{[42472]} ، فقلنا لأبينا : لا نقدر على الهبوط إلى أن نهبط{[42473]} بأخينا الأصغر معنا ، لأنا لا نقدر على معاينة وجه الرجل إن لم يكن أخونا معنا ، فقال لنا{[42474]} عبدك أبونا : أنتم تعلمون أن امرأتي ولدت{[42475]} لي ابنين ، فخرج واحد من عندي فقلتم : إنه قتل قتلاً ، فلم أعاينه إلى يوم الناس هذا ، فتحملون أيضاً هذا من عندي فيعرض له صيد فتهبطون{[42476]} بشيخوختي بحزن وشرإلى القبر ، والآن إذا نحن انطلقنا إلى عبدك أبينا وليس الغلام معنا ونفسه{[42477]} حبيبة إليه ، فإذا علم أن الغلام ليس هو معنا يموت فيهبط عبدك شيبة{[42478]} أبينا بالشقاء{[42479]} والتشحيب ، لأن عبدك ضمن الغلام لأبينا ، وقلت : إني إذا لم آتك{[42480]} به أخطىء باقي جميع الأيام ، والآن فليبق عبدك بدل{[42481]} الغلام عبداً لسيدي ، وليصعد الغلام مع إخوته ، لأني أفكر كيف أصعد إلى أبي وليس الغلام معي كيلا أعاين الشر الذي ينزل بأبي .