قال القاضي أبو محمد : وقوله تعالى : { ولقد أرسلنا من قبلك } الآية ، تسلية للنبي عليه السلام وعرض أسوة ، أي لا يضيق صدرك يا محمد بما يفعله قومك من الاستهزاء في قولهم : { يا أيها الذي نزل عليه الذكر } وغير ذلك ، فقد تقدم منا إرسال الرسل في شيع الأولين ، وكانت تلك سيرتهم في الاستهزاء بالرسل . و { شيع } جمع شيعة ، وهي الفرقة التابعة لرأس ما : مذهب أو رجل أو نحوه وهي مأخوذة من قولهم : شيعت النار : إذا استدمت وقدها بحطب أو غيره ، فكأن الشيعة تصل أمر رأسها وتظهره وتمده بمعونة . وقوله : { أرسلنا } يقتضي رسلاً ، ثم أوجز باختصار ذكرهم لدلالة الظاهر من القول على ذلك .
{ كانوا به يستهزءون } يدلّ على تكرر ذلك منهم وأنه سنتهم ، ف ( كان ) دلّت على أنه سجية لهم ، والمضارع دل على تكرره منهم .
ومفعول { أرسلنا } محذوف دلت عليه صيغة الفعل ، أي رُسلاً ، ودلّ عليه قوله : { من رسول } .
وتقديم المجرور على { يستهزءون } يفيد القصر للمبالغة ، لأنهم لما كانوا يكثرون الاستهزاء برسولهم وصار ذلك سجية لهم نزلوا منزلة من ليس له عمل إلا الاستهزاء بالرسول .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وَما يَأْتِيهمْ مِنْ رِسُولٍ إلاّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ" يقول: وما يأتي شيع الأوّلين من رسول من الله يرسله إليهم بالدعاء إلى توحيده والإذعان بطاعته، "إلاّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ" يقول: إلا كانوا يَسْخَرون بالرسول الذي يرسله الله إليهم عُتوّا منهم وتمرّدا على ربهم...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
يصبر رسوله على استهزاء قومه إياه وأذاهم؛ يقول، والله أعلم: لست أنت المخصوص بهذا، ولكن لك شركاء وأصحاب في ذلك، وليَخِفَّ ذلك عليه ويهون، لأن العرف في الخلق أن من كان له شركاء وأصحاب في شدة أصابته أو بلاء يصيبه، كان ذلك أيسر عليه وأهون من أن يكون مخصوصا به من بين سائر الخلائق، والله أعلم. وكأن هذه الآية صلة قوله: {يا أيها الذي نزل عليه الذكر} (الحجر: 6). فكأنه لما سمع هذا اشتد عليه، وضاق صدره بذلك، فعند ذلك قال: {ولقد أرسلنا من قبلك في شيع الأولين} (الحجر: 10) إلى آخره يصبره على أذاهم وهزئهم به، فإنما يشتد عليه ذلك على قدر شفقته ونصيحته لهم، وكان بلغ نصيحته وشفقته لهم ما ذكر: {لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنين} (الشعراء: 3) وقال: {فلا تذهب نفسك عليهم حسرات} (فاطر: 8) كادت نفسه تهلك، أو ذكر هذا له لما أن هؤلاء -أعني قومه- إنما استهزأوا به تقليدا لآبائهم واقتداء بهم وتلقنا منهم، لا أنهم أنشأوا ذلك من أنفسهم، وأولئك أعني الأوائل إنما استهزأوا برسلهم لا تقليدا لأحد، ولكن إنشاء من ذات أنفسهم، فمن استهزأ بآخر، فشتمه تقليدا واقتداء وتلقنا، كان ذلك أيسر عليه وأخف من فعل من فعله من ذاته، لأنه إنما يلقن المجانين والصبيان ومن به آفة بمثل ذلك، فهم الذين يعملون بالتلقين، وأما العقلاء والسالمون من الآفات فلا، فذلك أهون عليه من استهزاء أولئك برسلهم، والله أعلم...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
والهزء: إظهار ما يقصد به العيب على إيهام المدح، وهو بمعنى اللعب والسخرية.
زاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي 597 هـ :
والمعنى: إن كل نبي قبلك كان مبتلى بقومه كما ابتليت.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{وما يأتيهم} عبر بالمضارع تصويراً للحال، إيذاناً بما يوجب من الغضب، فإن ما تجعل المضارع حالاً والماضي قريباً منه، وأكد النفي فقال: {من رسول} أي على أي وجه كان {إلا كانوا به} أي جبلة وطبعاً {يستهزئون} مكررين لذلك دائماً، فكأنهم تواصوا بمثل هذا، ولم ينقص هذا من عظمتنا شيئاً، فلا تبتئس بما يفعلون بك؛ والاستهزاء في الأصل: طلب الهزوء، والمراد به هنا -والله أعلم- الهزء، وهو إظهار ما يقصد به العيب على إيهام المدح كاللعب والسخرية، ولعله عبر عنه بالسين المفهمة للطلب، إشارة إلى أن رغبتهم فيه لا تنقضي كما هو شأن الطالب للشيء، مع أنهم لا يقعون على مرادهم في حق أهل الله أصلاً، لأنهم لا يفعلون من ذلك فعلاً إلا كان ظاهر البعد عما يريدون، لظهور ما يدعو إليه حزب الله وثباته، فكانوا لذلك كطالب ما لم يقع، وإنما كان الناس إلى ما يوجبه الجهل من الاستهزاء ونحوه أسرع منهم إلى ما يوجبه العلم من الأخذ بالحزم والنظر في العواقب، لما في ذلك من تعجل الراحة واللذة وإسقاط الكلفة بإلزام النفس الانتقال من حال إلى حال -قاله الرماني.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{كانوا به يستهزئون} يدلّ على تكرر ذلك منهم وأنه سنتهم، ف (كان) دلّت على أنه سجية لهم، والمضارع دل على تكرره منهم.
ومفعول {أرسلنا} محذوف دلت عليه صيغة الفعل، أي رُسلاً، ودلّ عليه قوله: {من رسول}.
وتقديم المجرور على {يستهزءون} يفيد القصر للمبالغة، لأنهم لما كانوا يكثرون الاستهزاء برسولهم وصار ذلك سجية لهم نزلوا منزلة من ليس له عمل إلا الاستهزاء بالرسول.
ونجد كلمة: {يستهزءون "11 "} (سورة الحجر) ونجد أن الحق سبحانه قد أوضح هذا الاستهزاء حين قالوا: {يا أيها الذين نزل عليه الذكر إنك لمجنون "6 "} (سورة الحجر) وكأن الحق سبحانه يوضح له أن الاستهزاء قد يزيد، وذلك دليل على أنك قد بلغت منهم مبلغ الكيد، ولو كان كيدك قليلاً لخففوا كيدهم؛ ولكنك جئت بأمر قاس عليهم، وهدمت لهم مذاهبهم، وهدمت حتى سيادتهم وكذلك سطوتهم، ولم يجدوا غير الاستهزاء ليقاوموك به. ومعنى ذلك أنهم عجزوا عن مقاومة منهجك؛ ويحاولون بالاستهزاء أن يحققوا لك الخور لتضعف؛ معتمدين في ذلك على أن كل إنسان يحب أن يكون كريماً في قومه ومعززاً مكرماً. وهنا يريد الحق سبحانه من رسوله أن يوطن نفسه على أنه سيستهزأ به وسيحارب وسيؤذى، لأن المهمة صعبة وشاقة، وكلما اشتدت معاندتك وإيذاؤك، فاعلم أن هذه من حيثيات ضرورة مهمتك... فمادام سيصير رسولاً، فليعلم أن الطريق محفوف بالإيذاء، وبذلك لا يفاجأ بوجود من يؤذيه... ولهذا يوضح سبحانه هذا الأمر لرسوله صلى الله عليه وسلم، ولتزداد ثقته في الحق الذي بعثه به ربه، ويشتد في المحافظة على تنفيذ منهجه. والاستهزاء كما نعلم لون من الحرب السلبية؛ فهم لم يستطيعوا مواجهة ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجد، ولا أن يردوا منهجه الراقي؛ لذلك لجأوا إلى السخرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم تنفعهم سخريتهم في النيل من الرسول، أو النيل من الإسلام...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأنهم لا يستطيعون مواجهة الحجة، فيلجؤون إلى السخرية، ليبرروا هروبهم من الحجة الدامغة، وابتعادهم عن خط الحق، وليُسقطوا عن الرسل تأثيرهم في المجتمع، لما يوحيه الاستهزاء من عدم الاحترام للشخصية التي يطالها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ولكنّهم من العناد والتعصب لدرجة (وما يأتيهم من رسول إلاّ كانوا به يستهزئون). ذلك الاستهزاء وتلك السخرية لاعتبارات عدّة: مرةً، يريدون بالسخرية إسقاط شخصية النّبي كي لا يؤثر في أوساط الفئة الواعية. وأُخرى، يحاولون بالاستهزاء تغطية ضعفهم وعجزهم أمام المنطق القوي والحجج الدامغة لرسل اللّه عزّ ِوجلّ. وتارةً، يأخذهم الاستغراب لدعوات الأنبياء الثورية ضد طريقة حياتهم الموبوءة وتقاليدهم البالية، ولما كانوا مكيفين لها ومسترخين بين أجوائها، فيدفعهم جهلهم وتعصبهم الأعمى لما هو سائد، لأن يستهزئوا. وأُخرى، محاولة تخدير وجدانهم السارح في المتاهات كي لا يصحوا على حين غرّة فيعتنق الحق وينهض بأعباء مسؤوليته. وقد يكون الاستهزاء بسبب خطل مقياسهم ومعيارهم للقدوة والقائد فما تعارفوا عليه في مواصفات الزعيم أو القائد، أن يكون من الطبقة الثرية المرفهة، وقيمة الإنسان عندهم من خلال: لباسه الأنيق، مركبه الفاره، بيته الفخم، وحياته المحفوفة بالزخارف وإِذا نهض بدعوة الحق إِنسان فقير لا يمتلك من حطام الدنيا شيئاً، فسيكون موضع سخريتهم! وأخيراً، فقبولهم لدعوة الأنبياء عليهم السلام حسب تصورهم يستلزم تقويضاً لكل شهواتهم الدنيوية، وتحميلهم وظائف جديدة لا يطيقونها، فليجؤون للاستهزاء لتبرير إعراضهم وإنكارهم وإراحة ضمائرهم...