ولا تحسبن هذا لسليمان في الدنيا دون الآخرة ، بل له في الآخرة خير عظيم . ولهذا قال : { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي : هو من المقربين عند اللّه المكرمين بأنواع الكرامات للّه .
فصل فيما تبين لنا من الفوائد والحكم في قصة داود وسليمان عليهما السلام
فمنها : أن اللّه تعالى يقص على نبيه محمد صلى اللّه عليه وسلم أخبار من قبله ، ليثبت فؤاده وتطمئن نفسه ، ويذكر له من عباداتهم وشدة صبرهم وإنابتهم ، ما يشوقه إلى منافستهم ، والتقرب إلى اللّه الذي تقربوا له ، والصبر على أذى قومه ، ولهذا - في هذا الموضع - لما ذكر اللّه ما ذكر من أذية قومه وكلامهم فيه وفيما جاء به ، أمره بالصبر ، وأن يذكر عبده داود فيتسلى به .
ومنها : أن اللّه تعالى يمدح ويحب القوة في طاعته ، قوة القلب والبدن ، فإنه يحصل منها من آثار الطاعة وحسنها وكثرتها ، ما لا يحصل مع الوهن وعدم القوة ، وأن العبد ينبغي له تعاطي أسبابها ، وعدم الركون إلى الكسل والبطالة المخلة بالقوى المضعفة للنفس .
ومنها : أن الرجوع إلى اللّه في جميع الأمور ، من أوصاف أنبياء اللّه وخواص خلقه ، كما أثنى اللّه على داود وسليمان بذلك ، فليقتد بهما المقتدون ، وليهتد بهداهم السالكون { أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ }
ومنها : ما أكرم اللّه به نبيه داود عليه السلام ، من حسن الصوت العظيم ، الذي جعل اللّه بسببه الجبال الصم ، والطيور البهم ، يجاوبنه إذا رجَّع صوته بالتسبيح ، ويسبحن معه بالعشي والإشراق .
ومنها : أن من أكبر نعم اللّه على عبده ، أن يرزقه العلم النافع ، ويعرف الحكم والفصل بين الناس ، كما امتن اللّه به على عبده داود عليه السلام .
ومنها : اعتناء اللّه تعالى بأنبيائه وأصفيائه عندما يقع منهم بعض الخلل بفتنته إياهم وابتلائهم بما به يزول عنهم المحذور ، ويعودون إلى أكمل من حالتهم الأولى ، كما جرى لداود وسليمان عليهما السلام .
ومنها : أن الأنبياء صلوات اللّه وسلامه عليهم معصومون من الخطأ فيما يبلغون عن اللّه تعالى ، لأن مقصود الرسالة لا يحصل إلا بذلك ، وأنه قد يجري منهم بعض مقتضيات الطبيعة من المعاصي ، ولكن اللّه يتداركهم ويبادرهم بلطفه .
ومنها : أن داود عليه السلام ، [ كان ] في أغلب أحواله ملازما محرابه لخدمة ربه ، ولهذا تسور الخصمان عليه المحراب ، لأنه كان إذا خلا في محرابه لا يأتيه أحد ، فلم يجعل كل وقته للناس ، مع كثرة ما يرد عليه من الأحكام ، بل جعل له وقتا يخلو فيه بربه ، وتقر عينه بعبادته ، وتعينه على الإخلاص في جميع أموره .
ومنها : أنه ينبغي استعمال الأدب في الدخول على الحكام وغيرهم ، فإن الخصمين لما دخلا على داود في حالة غير معتادة ومن غير الباب المعهود ، فزع منهم ، واشتد عليه ذلك ، ورآه غير لائق بالحال .
ومنها : أنه لا يمنع الحاكم من الحكم بالحق سوء أدب الخصم وفعله ما لا ينبغي .
ومنها : كمال حلم داود عليه السلام ، فإنه ما غضب عليهما حين جاءاه بغير استئذان ، وهو الملك ، ولا انتهرهما ، ولا وبخهما .
ومنها : جواز قول المظلوم لمن ظلمه " أنت ظلمتني " أو " يا ظالم " ونحو ذلك أو باغ علي لقولهما : { خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ }
ومنها : أن الموعوظ والمنصوح ، ولو كان كبير القدر ، جليل العلم ، إذا نصحه أحد ، أو وعظه ، لا يغضب ، ولا يشمئز ، بل يبادره بالقبول والشكر ، فإن الخصمين نصحا داود فلم يشمئز ولم يغضب ولم يثنه ذلك عن الحق ، بل حكم بالحق الصرف .
ومنها : أن المخالطة بين الأقارب والأصحاب ، وكثرة التعلقات الدنيوية المالية ، موجبة للتعادي بينهم ، وبغي بعضهم على بعض ، وأنه لا يرد عن ذلك إلا استعمال تقوى اللّه ، والصبر على الأمور ، بالإيمان والعمل الصالح ، وأن هذا من أقل شيء في الناس .
ومنها : أن الاستغفار والعبادة ، خصوصا الصلاة ، من مكفرات الذنوب ، فإن اللّه ، رتب مغفرة ذنب داود على استغفاره وسجوده .
ومنها : إكرام اللّه لعبده داود وسليمان ، بالقرب منه ، وحسن الثواب ، وأن لا يظن أن ما جرى لهما منقص لدرجتهما عند اللّه تعالى ، وهذا من تمام لطفه بعباده المخلصين ، أنه إذا غفر لهم وأزال أثر ذنوبهم ، أزال الآثار المترتبة عليه كلها ، حتى ما يقع في قلوب الخلق ، فإنهم إذا علموا ببعض ذنوبهم ، وقع في قلوبهم نزولهم عن درجتهم الأولى ، فأزال اللّه تعالى هذه الآثار ، وما ذاك بعزيز على الكريم الغفار .
ومنها : أن الحكم بين الناس مرتبة دينية ، تولاها رسل اللّه وخواص خلقه ، وأن وظيفة القائم بها الحكم بالحق ومجانبة الهوى ، فالحكم بالحق يقتضي العلم بالأمور الشرعية ، والعلم بصورة القضية المحكوم بها ، وكيفية إدخالها في الحكم الشرعي ، فالجاهل بأحد الأمرين لا يصلح للحكم ، ولا يحل له الإقدام عليه .
ومنها : أنه ينبغي للحاكم أن يحذر الهوى ، ويجعله منه على بال ، فإن النفوس لا تخلو منه ، بل يجاهد نفسه بأن يكون الحق مقصوده ، وأن يلقي عنه وقت الحكم كل محبة أو بغض لأحد الخصمين .
ومنها : أن سليمان عليه السلام من فضائل داود ، ومن منن اللّه عليه حيث وهبه له ، وأن من أكبر نعم اللّه على عبده ، أن يهب له ولدا صالحا ، فإن كان عالما ، كان نورا على نور .
ومنها : ثناء اللّه تعالى على سليمان ومدحه في قوله { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }
ومنها : كثرة خير اللّه وبره بعبيده ، أن يمن عليهم بصالح الأعمال ومكارم الأخلاق ، ثم يثني عليهم بها ، وهو المتفضل الوهاب .
ومنها : تقديم سليمان محبة اللّه تعالى على محبة كل شيء .
ومنها : أن كل ما أشغل العبد عن اللّه ، فإنه مشئوم مذموم ، فَلْيُفَارِقْه ولْيُقْبِلْ على ما هو أنفع له .
ومنها : القاعدة المشهورة " من ترك شيئا لله عوضه اللّه خيرا منه " فسليمان عليه السلام عقر الجياد الصافنات المحبوبة للنفوس ، تقديما لمحبة اللّه ، فعوضه اللّه خيرا من ذلك ، بأن سخر له الريح الرخاء اللينة ، التي تجري بأمره إلى حيث أراد وقصد ، غدوها شهر ، ورواحها شهر ، وسخر له الشياطين ، أهل الاقتدار على الأعمال التي لا يقدر عليها الآدميون .
ومنها : أن تسخير الشياطين لا يكون لأحد بعد سليمان عليه السلام .
ومنها : أن سليمان عليه السلام ، كان ملكا نبيا ، يفعل ما أراد ، ولكنه لا يريد إلا العدل ، بخلاف النبي العبد ، فإنه تكون إرادته تابعة لأمر اللّه ، فلا يفعل ولا يترك إلا بالأمر ، كحال نبينا محمد صلى اللّه عليه وسلم ، وهذه الحال أكمل .
وقوله : ( وَإنّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مآبٍ ) يقول : وإن لسليمان عندنا لقُرْبةً بإنابته إلينا وتوبته وطاعته لنا ، وحُسْنَ مآب : يقول : وحسن مرجع ومصير في الاَخرة ، كما حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة وَإنّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مآبٍ : أي مصير .
إن قال لنا قائل : وما وجه رغبة سليمان إلى ربه في الملك ، وهو نبيّ من الأنبياء ، وإنما يرغب في الملك أهل الدنيا المؤثِرون لها على الاَخرة ؟ أم ما وجه مسألته إياه ، إذ سأله ذلك مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده ، وما كان يضرّه أن يكون كلّ من بعده يُؤْتيَ مثلَ الذي أوتي من ذلك ؟ أكان به بخل بذلك ، فلم يكن من مُلكه ، يُعطي ذلك من يُعطاه ، أم حسد للناس ، كما ذُكر عن الحجاج بن يوسف فإنه ذكر أنه قرأ قوله : وَهَبْ لي مُلْكا لا يَنْبَغي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي فقال : إن كان لحسودا ، فإن ذلك ليس من أخلاق الأنبياء قيل : أما رغبته إلى ربه فيما يرغب إليه من المُلك ، فلم تكن إن شاء الله به رغبةٌ في الدنيا ، ولكن إرادةٌ منه أن يعلم منزلته من الله في إجابته فيما رغب إليه فيه ، وقبوله توبته ، وإجابته دعاءَه .
وأما مسألته ربه مُلكا لا ينبغي لأحد من بعده ، فإنا قد ذكرنا فيما مضى قبلُ قولَ من قال : إن معنى ذلك : هب لي مُلكا لا أُسلبه كما سْلِبتُه قبل . وإنما معناه عند هؤلاء : هب لي مُلكا لا ينبغي لأحد من بعدي أن يَسلُبنيه . وقد يتجه ذلك أن يكون بمعنى : لا ينبغي لأحد سواي من أهل زماني ، فيكون حجة وعَلَما لي على نبوّتي وأني رسولك إليهم مبعوث ، إذ كانت الرسل لا بدّ لها من أعلام تفارق بها سائر الناس سواهم . ويتجه أيضا لأن يكون معناه : وهب لي مُلكا تَخُصّنِي به ، لا تعطيه أحدا غيري تشريفا منك لي بذلك ، وتكرمة ، لتبين منزلتي منك به من منازل من سواي ، وليس في وجه من هذه الوجوه مما ظنه الحجاج في معنى ذلك شيء .