تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَإِنَّ لَهُۥ عِندَنَا لَزُلۡفَىٰ وَحُسۡنَ مَـَٔابٖ} (40)

قوله تعالى : { وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى } أي القربة { وَحُسْنَ مَآَبٍ } أي مرجعا .

هذا يدل على أن ما أعطاه من الملك لم يحطه عن مرتبته ، ولم ينقص من قدره عند الله لأنه إنما سأله الملك ، والله أعلم ، لما ذكرنا من رغبته في نجاة الخلق بسرعة إجابتهم إياه إلى ما يدعوهم إليه لا رغبة منه في الدنيا ولذاتها وطلب العز فيها ، ولكن لما ذكرنا ، والله أعلم .

وقوله تعالى : { وإن له عندنا لزلفى } أي الأسباب التي تزلفه إلى الله ، وتقربه من التوفيق والعصمة والمعونة على الطاعة . وذلك يكون في الدنيا ، والأول يكون في الآخرة ، والله أعلم .

وهذا من أعظم المنن واللطف حين أمنه من جميع أنواع التبعات ، يغفر له بغير حساب ، ويسيره بالزلفى وحسن الرجع ، والله أعلم .

ثم اختلف في سبب فتنة سليمان عليه السلام وفي ذنبه :

قال بعضهم : وذلك أن الله تعالى أمره ألا يتزوج امرأة إلا من بني إسرائيل ، فتزوج امرأة من غير بني إسرائيل ، وجعل لها صنما ، فعبد في بيته كذا كذا يوما ، فابتلاه الله بسلب ملكه عقوبة له على قدر ما عبد الصنم في بيته .

وقال بعضهم : كانت فتنة سليمان عليه السلام التي ذكرنا في ناس من أهل الجرادة امرأته ، وكانت من أحب نسائه إليه ، وكان إذا أراد أن يحدث ، أو يدخل الخلاء ، أعطاها خاتمه ، وإن ناسا من أهلها جاؤوا يخاصمون قوما إلى سليمان . قالوا : وكان سليمان أحب أن يكون الحق لأهل جرادة ، فيقضي لهم ، فعوتب حين لم يكن هواه فيهم واحدا . وهو قول ابن عباس .

وقد ذكرنا نحن على أنه يجوز أن يكون نزع الملك منه وما ذكر عز وجل فتنته إياه بلا زلة ولا سبب : كان منه ابتداء محنة وابتلاء . وذلك جائز . ولله أن يفعل ما يشاء بمن يشاء وكيف يشاء من نزع الملك وغيره ، والله أعلم . وقال القتبي وأبو عوسجة : { رخاء } أي رخوة لينة ، وهو اللين . يقال : رجل رخو أي ضعيف في علمه ، وقوم رخاء . قالا : والرخاء الساكن . ويقال : استرخى أي سكن . وقوله عز وجل : { فامنن أو أمسك بغير حساب } ومثله قوله تعالى : { ولا تمنن تستكبر } [ المدثر : 6 ] أي لا تعط لتأخذ من المكافآت أكثر مما أعطيت .

وقال الفراء : سمي العطاء منا .

قوله عز وجل : { حيث أصاب } أي أراد : قال الأصمعي : العرب تقول : أصاب الصواب ، فأخطأ الجواب ، أي أراد الصواب . والأصفاد : الأغلال التي تشد بها الأيدي إلى العنق .

دل قول سليمان عليه السلام ودعاؤه ربه باستهابه الملك : { قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } على أن الملك الذي أعطاه لم يكن حقا عليه ؛ إذ لو كان حقا له لكان لا يستوهبه ، ولا يقول له : { إنك أنت الوهاب } ولكن يقول له : أعطني حقي ؛ إذ كل طالب حق له قبل الآخر لا يوصف إذا أعطاه إياه وهاب ، لكن مؤدي حق عليه .

ويدل هذا أيضا على أن ليس على الله حفظ الأصلح في الدين ؛ إذ لو كان عليه حفظ الأصلح في الدين ، وأعطى الآخر ، لكان لا يستوهب الملك ، إذ كان الملك ، له أصلح في الدين ، ولكن يقول : أعطني حقي . فدل استهابه منه الملك على أن ليس عليه حفظ الأصلح في الدين ، ولا أعطى الأخير ، وأن له ألا يعطيه . وإن إعطاءه الملك له فضل منه ورحمة ، والله أعلم .

فإن قيل : فيه تفضيل الغنى والسعة على الفقر والضيق لما أن الله عز وجل جعل الغنى والسعة آية من آيات النبوة والرسالة ، ولم ير الفقر والضيق جعلهما آية من آيات النبوة ، فهلا دل جعل الغنى آية من آيات النبوة على أنه أفضل من الفقر ؟

يقل لهم : إن الغنى والملك إنما جعلهما آية لرسالة نبي واحد ، وأكثر الأنبياء ، عليهم الصلاة والسلام ، كانوا فقراء وأهل الحاجة والضيق في أمر الدنيا ، فهم كانوا ما ذكرنا من الضيق والفقر وقلة أعوانهم وأنصارهم أما يعدل قواهم وظهر ما دعوا الناس إلى ما دَعَوا هُمْ ، وهو التوحيد والإسلام مع وجود رغبة الناس في من عنده السعة والغنى ونفاذ أمرهم وقلة رغبتهم في من عنده الفقر والضيق .

فدل اختيار أكثر الأنبياء الحال التي تنفر طباع الناس عنها على الحال التي يرغبون فيها مع حرصهم ورغبتهم في الدين . على أن الحال التي اختاروا هم أفضل وأخير من الحال الأخرى ، والله أعلم .

وكذلك قوله عز وجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم } [ الحجر : 88 ] نهاه أن يمد عينيه إلى ذلك ، ويختاره . إنما يمد ، ويختار لسعة قومه وأصحابه في أبواب الشر والخير ، وإنه لا يختار ، ولا يأخذ إلا ما يحل ، ويطيب . فدل النهي عما ذكر على العلم منه ما وصفنا على أن ذلك أفضل من الآخر ، والله أعلم .