ولما كان المقصود بيان الحق ، ذكر تعالى طريقه ، فقال : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ } في علمهم بصدقك وصدق ما جئت به { أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } وهذا كلام مختصر جامع ، فيه من الآيات البينات ، والدلالات الباهرات ، شيء كثير ، فإنه كما تقدم إتيان الرسول به بمجرده وهو أمي ، من أكبر الآيات على صدقه .
ثم عجزهم عن معارضته ، وتحديه إياهم{[629]} آية أخرى ، ثم ظهوره ، وبروزه جهرا علانية ، يتلى عليهم ، ويقال : هو من عند اللّه ، قد أظهره الرسول ، وهو في وقت قلَّ فيه أنصاره ، وكثر مخالفوه وأعداؤه ، فلم يخفه ، ولم يثن ذلك عزمه ، بل صرح به على رءوس الأشهاد ، ونادى به بين الحاضر والباد ، بأن هذا كلام ربي ، فهل أحد يقدر على معارضته ، أو ينطق بمباراته أو يستطيع مجاراته ؟ .
ثم إخباره عن قصص الأولين ، وأنباء السابقين{[630]} والغيوب المتقدمة والمتأخرة ، مع مطابقته للواقع .
ثم هيمنته على الكتب المتقدمة ، وتصحيحه للصحيح ، ونَفْيُ ما أدخل فيها من التحريف والتبديل ، ثم هدايته لسواء السبيل ، في أمره ونهيه ، فما أمر بشيء فقال العقل " ليته لم يأمر به " ولا نهى عن شيء فقال العقل : " ليته لم ينه عنه " بل هو مطابق للعدل والميزان ، والحكمة المعقولة لذوي البصائر والعقول [ ثم مسايرة إرشاداته وهدايته وأحكامه لكل حال وكل زمان بحيث لا تصلح الأمور إلا به ]{[631]}
فجميع ذلك يكفي من أراد تصديق الحق ، وعمل على طلب الحق ، فلا كفى اللّه من لم يكفه القرآن ، ولا شفى اللّه من لم يشفه الفرقان ، ومن اهتدى به واكتفى ، فإنه خير له{[632]} فلذلك قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وذلك لما يحصلون فيه من العلم الكثير ، والخير الغزير ، وتزكية القلوب والأرواح ، وتطهير العقائد ، وتكميل الأخلاق ، والفتوحات الإلهية ، والأسرار الربانية .
وقوله - سبحانه - : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ . . . } كلام مستأنف من جهته - تعالى - لتوبيخهم على جهالاتهم ، والاستفهام للإِنكار ، والواو للعطف على مقدر .
والمعنى : أقالوا ما قالوا من باطل وجهل ، ولم يكفهم أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب الناطق بالحق ، يتلى على مسامعهم صباح ومساء ، ويديهم إلى ما فيه سعادتهم ، لو تدبروه وآمنوا به ، واتبعوا أوامره ونواهيه ؟
والتعبير بقوله - سبحانه - : { يتلى عَلَيْهِمْ } ، يشير إلى أن هذه التلاوة متجددة عليهم ، وغير منقطعة عنهم ، وكان فى إمكانهم أن ينتفعوا بها لو كانوا يعقلون .
ولذا ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
أى : إن فى ذلك الكتاب الذى أنزلناه عليك - أيها الرسول الكريم - ، والذى تتلوه عليهم صباح مساء ، لرحمة عظيمة ، وذكرى نافعة ، لقوم يؤمنون بالحق ، ويفتحون عقولهم للرشد ، لا للتعنت والجحود والعناد .
{ أو لم يكفهم } آية مغنية عما اقترحوه . { أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم } تدوم تلاوته عليهم متحدين به فلا يزال معهم آية ثابتة لا تضمحل بخلاف سائر الآيات ، أو يتلى عليهم يعني اليهود بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك . { إن في ذلك } الكتاب الذي هو آية مستمرة وحجة مبينة { لرحمة } لنعمة عظيمة . { وذكرى لقوم يؤمنون } وتذكرة لمن همه الإيمان دون التعنت . وقيل أن أناسا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتب كتب فيها بعض ما يقول اليهود ، " فقال كفى بها ضلالة قوم أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى ما جاء به غير نبيهم " فنزلت .
عطف على جملة : { قل إنما الآيات عند الله } [ العنكبوت : 50 ] وهو ارتقاء في المجادلة .
والاستفهام تعجيبي إنكاري . والمعنى : وهل لا يكفيهم من الآيات آيات القرآن فإن كل مقدار من مقادير إعجازه آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإن آيات القرآن زهاء ستة آلاف آية . ومقدار كل ثلاث آيات مقدار مُعجز ، فيحصل من القرآن مقدار ألفي معجزة وذلك لم يحصل لأحد من رسل الله .
و { الكتاب } : القرآن ، وعُدل عن لفظ القرآن الذي هو كالعلم عليه إلى لفظ الكتاب المعهود لإيمائه إلى معنى تعظيمه بأنه المشتهر من بين كتب الأنبياء .
وجملة : { يتلى عليهم } مستأنفة أو حال ، لأن الكتاب معلوم غير محتاج للوصف لما تشعر به مادة التلاوة من الانتشار والشيوع . واختير المضارع دون الوصف بأن يقال : متلواً عليهم ، لما يؤذن به المضارع من الاستمرار ، فحصل من مادة { يُتْلَى } ومن صيغة المضارع دلالة على عموم الأمكنة والأزمنة . وقد أشار قوله : { يُتْلى عليهم } وما بعده إلى خمس مزايا للقرآن على غيره من المعجزات .
المزية الأولى : ما أشار إليه قوله { يُتْلى عليهم } من انتشار إعجازه وعمومه في المجامع والآفاق والأزمان المختلفة بحيث لا يختص بإدْراك إعجازه فريق خاص في زمن خاص شأن المعجزات المشهودة مثل عصا موسى وناقة صالح وبرء الأكمة ، فهو يتلى ، ومن ضمن تلاوته الآيات التي تحدّت الناس بمعارضته وسجلت عليهم عجزهم عن المعارضة من قَبل محاولتهم إياها فكان كما قال فهو معجزة باقية والمعجزات الأخرى معجزات زائلة .
المزية الثانية : كونه مما يُتلى ، فإن ذلك أرفع من كون المعجزات الأخرى أحوالاً مرئية لأن إدراك المتلوّ إدراك عقلي فكري وهو أعلى من المدركات الحسية فكانت معجزةُ القرآن أليق بما يستقبل من عصور العلم التي تهيأت إليها الإنسانية .
المزية الثالثة : ما أشار إليه قوله : { إن في ذلك لرحمة } فإنها واردة مورد التعليل للتعجيب من عدم اكتفائهم بالكتاب وفي التعليل تتميم لما اقتضاه التعبير بالكتاب وب { يتلى عليهم } ، فالإشارة ب { ذلك } إلى { الكتاب } ليستحضر بصفاته كلها وللتنويه به بما تقتضيه الإشارة من التعظيم . وتنكير ( رحمة ) للتعظيم ، أي لا يقادَر قدرها . فالكتاب المتلو مشتمل على ما هو رحمة لهم اشتمال الظرف على المظروف لأنه يشتمل على إقامة الشريعة وهي رحمة وصلاح للناس في دنياهم ، فالقرآن مع كونه معجزة دالّةً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ومرشدة إلى تصديقه مثل غيره من المعجزات وهو أيضاً وسيلة علم وتشريع وآداب للمتلو عليهم وبذلك فضَل غيره من المعجزات التي لا تفيد إلا تصديق الرسول الآتي بها .
المزية الرابعة : ما أشار إليه قوله : { وذكرى } فإن القرآن مشتمل على مواعظ ونذر وتعريف بعواقب الأعمال ، وإعدادٍ إلى الحياة الثانية ، ونحو ذلك مما هو تذكير بما في تذكره خيرُ الدارين ، وبذلك فضَل غيره من المعجزات الصامتة التي لا تفيد أزيد من كون الآتية على يديه صادقاً .
المزية الخامسة : أن كون القرآن كتاباً متلواً مستطاعاً إدراك خصائصه لكل عربي ، ولكل من حذق العربية من غير العرب مثل أيمة العربية ، يبعده عن مشابهة نفثات السحرة والطلاسم ، فلا يستطيع طاعن أن يزعم أنه تخيلات كما قال قوم فرعون لموسى : { يأيها الساحر } [ الزخرف : 49 ] وقال تعالى حكاية عن المشركين حين رأوا معجزة انشقاق القمر : { وإن يروا ءاية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } [ القمر : 2 ] ، فأشار قوله : { يعرضوا } إلى أن ذلك القول صدر عنهم في معجزة مرئية .
وعُلق بالرحمة والذكرى قوله : { لِقَوم يؤمنون } للإشارة إلى أن تلك منافع من القرآن زائدة على ما في المعجزات الأخرى من المنفعة التي هي منفعة الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه مزايا عظيمة لمعجزة القرآن حاصلة في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيبته ومستقلة عن الحاجة إلى بيانه وتكميله بالدعوة وبتكريرها .
واستحضار المؤمنين بعنوان : ( قوم يؤمنون ) دون أن يقال : للمؤمنين ، لما في لفظ قوم من الإيماء إلى أن الإيمان من مقومات قوميتهم ، أي لقوم شعارهم أن يؤمنوا ، يعني لقوم شعارهم النظر والإنصاف فإذا قامت لهم دلائل الإيمان آمنوا ولم يكابروا ظلماً وعلوّاً ، فالفعل مراد به الحال القريبة من الاستقبال . وفيه تعريض بالذين لم يكتفوا بمعجزته واقترحوا آيات أخرى لا نسبة بينه وبينها .