السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{أَوَلَمۡ يَكۡفِهِمۡ أَنَّآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡكِتَٰبَ يُتۡلَىٰ عَلَيۡهِمۡۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَرَحۡمَةٗ وَذِكۡرَىٰ لِقَوۡمٖ يُؤۡمِنُونَ} (51)

وقوله تعالى : { أولم يكفهم } جواب لقولهم لولا أنزل عليه آيات من ربه أي : إن كانوا طائعين للحق غير متيقنين آية مغنية عن كل آية { أنا أنزلنا } أي : بما لنا من العظمة { عليك الكتاب } أي : القرآن الجامع لسعادة الدارين بحيث صار خلقاً لك { يتلى عليهم } أي : تتجدّد متابعة قراءته عليهم شيئاً بعد شيء في كل مكان وفي كل زمان من كل مقال مصدقاً لما في الكتب القديمة من نعتك وغيره من الآيات الدالة على صدقك فأعظم به آية باقية لا تزول ولا تضمحل إذ كل آية سواه منقضية ماضية وتكون في مكان دون مكان ، فالقرآن أتم من كل معجزة لوجوه :

الأوّل : أنّ تلك المعجزات وجدت وما دامت فإن قلب العصا ثعبان وإحياء الميت لم يبق لنا منه أثر فلو أنكره واحد لم يمكن إثباتها معه بدون الكتاب ، وأما القرآن فهو باق لو أنكره واحد فيقال ائت بآية من مثله .

الثاني : أنّ قلب ، العصا ثعباناً كان في آن واحد ولم يره من لم يكن في ذلك المكان ، وأما القرآن فقد وصل إلى المشرق والمغرب وسمعه كل أحد ، وههنا لطيفة : وهي أنّ آيات نبينا صلى الله عليه وسلم كانت أشياء لا تختص بمكان دون مكان لأنّ من جملتها انشقاق القمر وهو يعم الأرض لأنّ الخسوف إذا وقع عمّ وذلك لأنّ نبوّته كانت عامّة لا تختص بقطر دون قطر ، وغاض بحر ساوة في قطر وسقط إيوان كسرى في قطر ، وانهدمت الكنيسة بالروم في قطر آخر إعلاماً بأنه يكون أمراً عامّا ، الثالث : أنّ غير هذه المعجزة يقول الكافر المعاند هذا سحر وعمل يد والقرآن لا يمكن هذا القول فيه ، وقال أبو العباس المرسي : خشع بعض الصحابة من سماع بعض اليهود يقرأ التوراة فعوتبوا إذ تخشعوا من غير القرآن وهم إنما تخشعوا من التوراة وهي كلام الله تعالى فما ظنك بمن أعرض عن كتاب الله وتخشع بالملاهي والغناء .

ولما كان هذا القرآن أعظم من كل آية يقترحونها قال تعالى : { إن في ذلك } أي : إنزال الكتاب على هذا الوجه البعيد المنال البديع المثال { لرحمة } أي : نعمة عظيمة في كل لحظة وتطهيراً لخبث النفوس في كل لمحة { وذكرى } أي : عظيمة مستمرّاً تذكرها . ولما عمّ بالقول خص من حيث النفع فقال { لقوم يؤمنون } لأنهم المنتفعون بذلك .