ثم حكى - سبحانه - أقوالهم لأبيهم بعد أن فعلوا فعلتهم وعادوا إليه ليلا يبكون فقال :
{ وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً . . . } .
قوله : { وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ } .
والعشاء : وقت غيبوبة الشفق الباقى من بقايا شعاع الشمس ، وبدء حلول الظلام والمراد بالبكاء هنا : البكاء المصطنع للتمويه والخداع لأبيهم ، حتى يقنعوه - في زعمهم - أنهم لم يقصروا في حق أخيهم .
أى : وجاءوا أباهم بعد ان أقبل الليل بظلامه يتباكون ، متظاهرين بالحزن والأسى لما حدث ليوسف ، وفى الأمثال : " دموع الفاجر بيديه " .
يقول تعالى مخبرا عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعدما ألقوه في غيابة الجب : أنهم{[15085]} رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون ، ويظهرون الأسف والجزع على يوسف ويتغممون لأبيهم ، وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا : { إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي : نترامى ، { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا } أي : ثيابنا وأمتعتنا ، { فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ } وهو الذي كان [ قد ]{[15086]} جزع منه ، وحذر عليه .
وقولهم : { وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } تلطفٌ عظيم في تقرير ما يحاولونه ، يقولون : ونحن نعلم أنك لا تصدقنا - والحالة هذه - لو كنا عندك صادقين ، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك ، لأنك خشيت أن يأكله الذئب ، فأكله الذئب ، فأنت معذور في تكذيبك لنا ؛ لغرابة ما وقع ، وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا .
قرأت فرقة «عشاء » أي وقت العشاء ، وقرأ الحسن : «عشى » على مثال دجى ، أي جمع عاش ، قال أبو الفتح : «عشاة » كماش ومشاة ، ولكن حذفت الهاء تخفيفاً كما حذفت من مألكة ، وقال عدي :
أبلغ النعمان عني مألكاً*** أنه قد طالب حبسي وانتظاري{[6595]}
قال القاضي أبو محمد : ومعنى ذلك أصابهم عشا من البكاء أو شبه العشا إذ كذلك هي هيئة عين الباكي لأنه يتعاشى ، ومثل شريح في امرأة بكت وهي مبطلة ببكاء هؤلاء وقرأ الآية .
عطف على جملة { فلما ذهبوا به } [ سورة يوسف : 15 ] عطف جزء القصة .
والعشاء : وقت غيبوبة الشفق الباقي من بقايا شعاع الشمس بعد غروبها .
والبكاء : خروج الدموع من العينين عند الحزن والأسف والقهر . وتقدم في قوله تعالى : { فليضحكوا قليلاً وليبكوا كثيراً } [ سورة التوبة : 82 ] . وقد أطلق هنا على البكاء المصطنع وهو التباكي . وإنما اصطنعوا البكاء تمويهاً على أبيهم لئلا يظن بهم أنهم اغتالوا يوسف عليه السّلام ، ولعلّهم كانت لهم مقدرة على البكاء مع عدم وجدان موجبه ، وفي الناس عجائب من التمويه والكيد . ومن الناس من تتأثر أعصابهم بتخيل الشيء ومحاكاته فيعتريهم ما يعتري الناس بالحقيقة .
وبعض المتظلمين بالباطل يفعلون ذلك ، وفطنة الحاكم لا تنخدع لمثل هذه الحيل ولا تنوط بها حكماً ، وإنما يناط الحكم بالبينة .
جاءت امرأة إلى شريح تخاصم في شيء وكانت مبطلة فجعلت تبكي ، وأظهر شريح عدم الاطمئنان لدعواها ، فقيل له : أما تراها تبكي ؟ فقال : قد جاء إخوة يوسف عليه السّلام أباهم عشاء يبكون وهم ظلَمة كَذبَة ، لا ينبغي لأحد أن يقضي إلا بالحق . قال ابن العربي : قال علماؤنا : هذا يدلّ على أن بكاء المرء لا يدل على صدق مقاله لاحتمال أن يكون تصنّعاً . ومن الخلق من لا يقدر على ذلك ومنهم من يقدر .
قلت : ومن الأمثال دموع الفاجر بيديه وهذه عبرة في هذه العبرة .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول جلّ ثناؤه: وجاء إخوة يوسف أباهم، بعد ما ألقوا يوسف في غيابة الجبّ، {عِشاءً يَبْكُونَ}...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
تمكينُ الكذَّاب من البكاء سِمَةُ خذلان الله تعالى إياه...
أحكام القرآن لابن العربي 543 هـ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بُكَاءَ الْمَرْءِ لَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ مَقَالِهِ؛ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ تَصَنُّعًا، وَمِنَ الْخَلْقِ مَنْ يَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يَقْدِرُ.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
يقول تعالى مخبرا عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعدما ألقوه في غيابة الجب: أنهم رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون، ويظهرون الأسف والجزع على يوسف ويتغممون لأبيهم، وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ} أي: نترامى، {وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا} أي: ثيابنا وأمتعتنا، {فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} وهو الذي كان [قد] جزع منه، وحذر عليه. وقولهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} تلطفٌ عظيم في تقرير ما يحاولونه، يقولون: ونحن نعلم أنك لا تصدقنا -والحالة هذه- لو كنا عندك صادقين، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك، لأنك خشيت أن يأكله الذئب، فأكله الذئب، فأنت معذور في تكذيبك لنا؛ لغرابة ما وقع، وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما كان من المعلوم أنه ليس بعد هذا الفعل إلا الاعتذار، عطف على الجواب المقدر قوله: {وجاؤوا أباهم} دون يوسف عليه الصلاة والسلام {عشاء} في ظلمة الليل لئلا يتفرس أبوهم في وجوههم إذا رآها في ضياء النهار ضد ما جاؤوا به من الاعتذار، وقد قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين، ولا تعتذر بالنهار من ذنب فتتلجلج في الاعتذار. والآية دالة على أن البكاء لا يدل على الصدق لاحتمال التصنع {يبكون} والبكاء: جريان الدمع في العين عند حال الحزن.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
أي أنهم قضوا النهار غائبين عن أبيهم، ثم عادوا في العشية، يقول المفسرون: إنهم كانوا يتباكون، ولا يبكون، ونحن نميل إلى أنه كان ثمة بكاء حقيقي من بعضهم على الأقل، وهو بعض من الندم على ما ارتكبوا أو أثموا وقد أحسوا بفظاعته، وخصوصا عندما لقوا أباهم، فإن لم يكن لأجل يوسف، فلأجل أبيهم الثاكل.
وهنا تتجلى لنا قدرة أداء القرآن أداء دقيقا معبرا عن الانفعالات التي توجد في النفس الإنسانية، فها هم إخوة خدعوا أباهم ومكروا بأخيهم، وأخذوه وألقوه في الجب مع أنهم يعلمون أن أباه يحبه، وكان ضنينا أن يأتمنهم عليه، فكيف يواجهون هذا الأب؟ هذا هو الانفعال النفسي الذي لا تستطيع فطرة أن تثبته؛ فقالوا: نؤخر اللقاء لأبينا إلى العشاء: والعشاء محل الظلمة، وهو ستر للانفعالات التي توجد على الوجوه من الاضطراب؛ ومن مناقضة كذب ألسنتهم؛ لأنهم لن يخبروا الأب بالواقع الذي حدث؛ بل بحديث مختلق. وقد تخدعهم حركاتهم، ويفضحهم تلجلجهم، وتنكشف سيماهم الكاذبة أمام أبيهم؛ فقالوا: الليل أخفى للوجه من النهار، وأستر للفضائح؛ وحين ندخل على أبينا عشاء؛ فلن تكشفنا انفعالاتنا. وبذلك اختاروا الظرف الزمني الذي يتوارون فيه من أحداثهم: {وجاءوا أباهم عشاء يبكون} والبكاء انفعال طبيعي غريزي فطري؛ ليس للإنسان فيه مجال اختيار؛ ومن يريد أن يفتعله فهو يتباكى، بأن يفرك عينيه، أو يأتي ببعض ريقه ويقربه من عينيه، ولا يستر ذلك إلا أن يكون الضوء خافتا؛ لذلك جاءوا أباهم عشاء يمثلون البكاء.