فكأنه قيل : ما السبب الذي أوصلهم إلى هذا الحال ؟ قال : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ } لتؤمنوا بها وتقبلوا عليها ، فلم تفعلوا ذلك ، بل { كُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ } أي : راجعين القهقري إلى الخلف ، وذلك لأن باتباعهم القرآن يتقدمون ، وبالإعراض عنه يستأخرون وينزلون إلى أسفل سافلين .
ثم بين - سبحانه - الأسباب التى أفضت بهم إلى هذا العذاب المهين ، فقال - تعالى - : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُون . . } .
والأعقاب : جمع عقب ، وهو مؤخر القدم { تَنكِصُون } من النكوص ، وهو الرجوع إلى الخلف . يقال : فلان نكص على عقبيه ، إذا رجع إلى الوراء ، وهو هنا كناية عن الإعراض عن الآيات .
أى : لا تجأروا ولا تصرخوا ، فإن ذلك لن يفيدكم شيئاً ، بسبب إصراركم على كفركم فى حياتكم الدنيا ، فقد كانت آياتى الدالة على وحدانيتى تتلى على مسامعكم من نبينا صلى الله عليه وسلم ومن المؤمنين به ، فكنتم تعرضون عن سماعها أشد الإعراض ، وكنتم تستهزئون بها ، وتكادون تسطون بالذين يتلونها عليكم .
ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ } أي : إذا دعيتم أبيتم ، وإن{[20589]} طُلبتم امتنعتم ؛ { ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ } [ غافر : 12 ] .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قد كانت آياتي} يعني: القرآن {تتلى عليكم} يعني: على كفار مكة {فكنتم على أعقابكم تنكصون}، يعني: تتأخرون عن إيمان به، تكذيبا بالقرآن.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لهؤلاء المشركين من قريش: لا تضجوا اليوم وقد نزل بكم سخط الله وعذابه، بما كسبت أيديكم واستوجبتموه بكفركم بآيات ربكم. "قَد كانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ "يعني: آيات كتاب الله، يقول: كانت آيات كتابي تقرأ عليكم فتكذّبون بها وترجعون مولّين عنها إذا سمعتموها، كراهية منكم لسماعها، وكذلك يقال لكلّ من رجع من حيث جاء: نكص فلان على عقبه...
عن مجاهد: "فَكُنْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ" قال: تستأخرون... عن ابن عباس، قوله: "فَكُنْتُمْ عَلى أعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ" يقول: تدبرون... يعني أهل مكة...
وقوله: "مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ" يقول: مستكبرين بحرم الله، يقولون: لا يظهر علينا فيه أحد، لأنا أهل الحرم...
وقوله: "سامِرا" يقول: تَسْمُرون بالليل. ووحد قوله: سامِرا وهو بمعنى السّمّار، لأنه وضع موضع الوقت. ومعنى الكلام: وتهجُرون ليلاً، فوضع السامر موضع الليل، فوحّد لذلك... عن ابن عباس، قوله: "سامِرا" يقول: يَسْمُرون حول البيت... قال ابن زيد، في قوله: "سامِرا" قال: كانوا يسمرون ليلتهم ويلعبون: يتكلمون بالشعر والكهانة وبما لا يدرون...
وقال بعضهم في ذلك:... كانوا يقولون: نحن أهل الحرم لا يَخافون...
وقوله: "تَهْجُرُونَ" اختلفت القرّاء في قراءته؛ فقرأته عامة قرّاء الأمصار: "تَهْجُرُونَ" بفتح التاء وضم الجيم. ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان من المعنى: أحدهما أن يكون عنى أنه وصفهم بالإعراض عن القرآن أو البيت، أو رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفضه. والآخر: أن يكون عنى أنهم يقولون شيئا من القول كما يهجُر الرجل في منامه، وذلك إذا هَذَى، فكأنه وصفهم بأنهم يقولون في القرآن ما لا معنى له من القول، وذلك أن يقولوا فيه باطلاً من القول الذي لا يضرّه... عن ابن عباس، قوله: "تَهْجُرُونَ" قال: يهجُرون ذكر الله والحقّ...
عن أبي صالح، في قوله: "سامرا تَهْجُرُونَ" قال: السبّ... كانوا يقولون الباطل والسيّئ من القول في القرآن...
وقرأ ذلك آخرون: «سامرا تُهْجِرُونَ» بضم التاء وكسر الجيم. وممن قرأ ذلك كذلك من قرّاء الأمصار نافع بن أبي نعيم، بمعنى: يُفْحِشون في المنطق، ويقولون الخَنَا، من قولهم: أهجر الرجل: إذا أفحش في القول. وذكر أنهم كانوا يسُبّون رسول الله صلى الله عليه وسلم... عن ابن عباس: «تُهْجِرُونَ» قال: تقولون هُجْرا... قال الحسن: «تُهْجِرُونَ» كتاب الله ورسوله.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{على أعقابكم} ترجعون، على التمثيل لا على التحقيق، لأنهم إذا رجعوا على الأعقاب صار ما كان أمامهم وراءهم، فكأنهم نبذوا ذلك وراء ظهورهم، أو يكون المنقلب على الأعقاب كالمكب على الوجه، والمكب على وجهه مذموم عند جميع من رآه وعاينه. لهذا شبهه به، وضرب مثله به والله أعلم.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم يقول الله تعالى لهم "قد كانت آياتي "أي حججي وبراهيني "تتلى عليكم" من القرآن وغيره "فكنتم على أعقابكم تنكصون" فالنكص: الرجوع القهقرى، وهو المشي على الأعقاب إلى خلف، وهو أقبح مشية.
مثل شبه الله به أقبح حال في الإعراض عن الداعي إلى الحق. وقال سيبويه: لأنه يمشي ولا يرى ما وراءه.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
ذَكَرَ هذا من باب إملاءِ العُذْرِ، وإلزام الحجة، والقطع بألا ينفعَ -الآنَ- الجزعُ ولا يُسْمَعُ العُذْرُ.
اعلم أنه سبحانه لما بين فيما قبل أنه لا ينصر أولئك الكفار، أتبعه بعلة ذلك وهي أنه متى تليت آيات الله عليهم أتوا بأمور ثلاثة؛ أحدها: أنهم كانوا على أعقابهم ينكصون، وهذا مثل يضرب فيمن تباعد عن الحق كل التباعد وهو قوله: {فكنتم على أعقابكم تنكصون} أي تنفرون عن تلك الآيات وعمن يتلوها كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إلى ورائه...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
ذكر أكبر ذنوبهم فقال: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} أي: إذا دعيتم أبيتم، وإن طُلبتم امتنعتم؛ {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ثم علل عدم نصره لهم بقوله: {قد كانت آياتي}. ولما كانت عظمتها التي استحقت بها الإضافة إليه تكفي في الحث على الإيمان بمجرد سماعها، بنى للمفعول قوله: {تتلى عليكم} أي وهي أجلى الأشياء، من أوليائي وهم الهداة النصحاء {فكنتم} أي كوناً هو كالجبلة {على أعقابكم} عند تلاوتها {تنكصون} أي ترجعون القهقرى إما حساً أو معنى، والماشي كذلك لا ينظر ما وراءه... قال في القاموس: نكص على عقبيه ينكص وينكص: رجع عما كان عليه من خير، وفي الشر قليل.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
فكأنه قيل: ما السبب الذي أوصلهم إلى هذا الحال؟ قال: {قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} لتؤمنوا بها وتقبلوا عليها، فلم تفعلوا ذلك، بل {كُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ} أي: راجعين القهقري إلى الخلف، وذلك لأن باتباعهم القرآن يتقدمون، وبالإعراض عنه يستأخرون وينزلون إلى أسفل سافلين.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فتتراجعون على أعقابكم كأن ما يتلى عليكم خطر تحاذرونه، أو مكروه تجانبونه، مستكبرين عن الإذعان للحق..
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الآيات هي الآيات القرآنية بدليل التعبير بقوله: {تتلى}، والتلاوة القراءة المرتلة التي تجيء الكلمة تلو الكلمة واضحة في نطقها متقنة في صرفها عند النطق مستوفية مدها وهي الترتيل... وقد أكد سبحانه وتعالى ب (قد) الدالة على التحقيق و {كانت} تدل على استمرار التلاوة، ولكنهم ما كانوا ليتبعونها، ويتدبرونها، ويتعرفون مراميها وغايتها، معتبرين بعبرها، متأولين مآلها، بل إنهم يستمعون بآذانهم، وقلوبهم لاهية، وعقولهم معرضة؛ ولذا قال تعالى: {فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ}، أي الفاء عاطفة، (كنتم) معناها أن هذه كانت حالا دائمة مستمرة لا يستمعون إلا بأذانهم، وقلوبهم معرضة، وقوله تعالى: {عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ}، هذا التعبير تصوير للإعراض يظهر حسيا، كيف كان إعراضهم عن الحق {تَنكِصُونَ} أي ترجعون وراءكم، ووجوهكم كأنها مقبلة، فهم يرجعون القهقرى، بأدبارهم، ويسيرون إلى الوراء بأعقابهم،...
وهذا تشبيه حال بحال، فشبهت حالهم في أنهم يسمعون بآذانهم دون أن تعيه قلوبهم بحال من يلقون بوجوههم وهم يسيرون القهقرى إلى الوراء.
كيف تستغيثون بالله وتجأرون إليه وأنتم تلقى عليكم آياته تشرح لكم وتثبت لكم وجود الله بالآيات الكونية، وتثبت لكم صدق الرسول بالمعجزات، وتحمل لكم منهج الله في الآيات حاملة الأحكام، ولكنكم عميتم عن ذلك كله. ومعنى {فكنتم على أعقابكم تنكصون} العقب: مؤخرة القدم، فبدل أن يمشي إلى الأمام كما خلقه الله وجعل له كشافات يبصر بها الطريق، ويهتدي إلى موضع قدميه، إذا به يمشي للخلف على عقبه، وكأنهم أخذوا أخذا غيّر عندهم دولاب السير، لماذا؟ لأنهم عموا عن أسباب الهداية، فصاروا يتخبطون في متاهات الحياة على غير هدى، كمن يسير بظهره لا يعرف مواقع قدميه، وهكذا فعلوا هم بأنفسهم...
فالمعنى: لا تلم إلا نفسك حيث حرمتها من أسباب الهداية، فبعد أن جاءتك وأصبحت بين يديك أغمضت عنها عينيك. وفي موضع آخر قال سبحانه عن الشيطان: {فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم.. (48)} [الأنفال].