ثم فسر المتقين فقال : { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ ْ } أي : يخشونه في حال غيبتهم ، وعدم مشاهدة الناس لهم ، فمع المشاهدة أولى ، فيتورعون عما حرم ، ويقومون بما ألزم ، { وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ْ } أي : خائفون وجلون ، لكمال معرفتهم بربهم ، فجمعوا بين الإحسان والخوف ، والعطف هنا من باب عطف الصفات المتغايرات ، الواردة على شيء واحد وموصوف واحد .
وقوله - تعالى - : { الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب . . } صفة مدح للمتقين .
أى : آتينا موسى وهارون الكتاب الجامع لصفات الخير ليكون هداية للمتقين ، الذين من صفاتهم أنهم يخافون ربهم وهو غير مرئى لهم ، ويخشون عذابه فى السر والعلانية { وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ } أى : وهم من الساعة وما يقع فيها من حساب دقيق خائفون وجلون وليسوا كأولئك الكافرين الجاحدين الذين يستعجلون حدوثها .
وخصت الساعة بالذكر مع أنها داخلة فى الإيمان بالغيب ، للعناية بشأنها حيث إنها من أعظم المخلوقات ، وللردّ على من أنكرها واستعجل قيامها .
ثم وصفهم فقال : { الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ } كقوله { مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ } [ ق : 33 ] ، وقوله : { إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ الملك : 12 ] ، { وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ } أي : خائفون وجلون .
القول في تأويل قوله تعالى : { الّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مّنَ السّاعَةِ مُشْفِقُونَ } .
يقول تعالى ذكره : آتينا موسى وهارون الفرقان الذّكْر الذي آتيناهما للمتقين الذين يخافون ربهم بالغيب ، يعني في الدنيا أن يعاقبهم في الاَخرة إذا قدموا عليه بتضييعهم ما ألزمهم من فرائضه فهم من خشيته يحافظون على حدوده وفرائضه ، وهم من الساعة التي تقوم فيها القيامة مشفقون ، حذرون أن تقوم عليهم ، فيردوا على ربهم قد فرّطوا في الواجب عليهم لله ، فيعاقبهم من العقوبة بما لا قِبَل لهم به .
وقوله تعالى : { بالغيب } يحتمل ثلاث تأويلات أحدها في غيبهم وخلواتهم وحيث لا يطلع عليهم أحد وهذا أرجحها ، والثاني أنهم يخشون الله تعالى على أمره تعالى غائب وإنما استدلوا بدلائل لا بمشاهدة ، والثالث أنهم يخشون الله ربهم بما أعلمهم به مما غاب عنهم من أمر آخرتهم ودنياهم ، و «الإشفاق » أشد الخشية و { الساعة } القيامة .
وصفهم بما يزيد معنى المتقين بياناً بقوله تعالى : { الذين يخشون ربهم بالغيب } وهو على نحو قوله تعالى : { هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب } في [ سورة البقرة : 23 ] .
والباء في قوله تعالى { بالغيب } بمعنى ( في ) . والغيب : ما غاب عن عيون الناس ، أي يخشون ربهم في خاصتهم لا يريدون بذلك رياء ولا لأجل خوف الزواجر الدنيوية والمذمة من الناس .
والإشفاق : رجاء حادث مخوف . ومعنى الإشفاق من الساعة : الإشفاق من أهوالها ، فهم يعدُّون لها عُدَّتها بالتقوى بقدر الاستطاعة .
وفيه تعريض بالذين لم يهتدوا بكتاب الله تعالى بدلالة مفهوم المخالفة لقوله تعالى : { الذين يخشون ربهم بالغيب } . فمن لم يهتد بكتاب الله فليس هو من الذين يخشون ربهم بالغيب ، وهؤلاء هم فرعون وقومه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم، فقال سبحانه: {الذين يخشون ربهم بالغيب} فأطاعوه ولم يروه {وهم من الساعة مشفقون} يعني: من القيامة خائفين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يَقُولُ تَعَالَى ذِكْرُهُ:"آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ"، الذِّكْرَ الَّذِي آتَيْنَاهُمَا لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يَخَافُونَ رَبَّهُمْ "بِالْغَيْبِ"، يَعْنِي فِي الدُّنْيَا أَنْ يُعَاقِبَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِذَا قَدِمُوا عَلَيْهِ بِتَضْيِيعِهِمْ مَا أَلْزَمُهُمْ مِنْ فَرَائِضِهِ، فَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ يُحَافِظُونَ عَلَى حُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ، وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ الَّتِي تَقُومُ فِيهَا الْقِيَامَةُ مُشْفِقُونَ، حَذِرُونَ أَنْ تَقُومَ عَلَيْهِمْ، فَيَرِدُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَدْ فَرَّطُوا فِي الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ، فَيُعَاقِبَهُمْ مِنَ الْعُقُوبَةِ بِمَا لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهِ.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
ثم بين من المتقون؟ فقال: {الذين يخشون ربهم بالغيب} يحتمل قوله: {يخشون ربهم} أي يخشون العذاب الموعود {بالغيب} في الآخرة، فيحذرون ما به يحل ذلك. وأما الكفار فإنهم لم يخافوا العذاب الموعود، ولم يصدقوه، إنما يخافون العذاب المعاين المشاهد، فأما العذاب الموعود في الغيب فلا يخافونه.ويحتمل أيضا قوله: {يخشون ربهم بالغيب} أي يهابون ربهم، ويخافونه، وإن لم يروه لما رأوا من آثار سلطانه وملكه.
{وهم من الساعة مشفقون} يحتمل هم من أهوال الساعة وأفزاعها خائفون، أو أن يكون قوله: وهم من محاسبة أعمالهم مشفقون خائفون، فحاسبوا أنفسهم في الدنيا إشفاقا على محاسبة أنفسهم في الآخرة.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
ثم وصف المتقين بأن قال "الذين يخشون "عذاب الله فيجتنبون معاصيه في حال السر والغيب...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وقوله تعالى: {بالغيب} يحتمل ثلاث تأويلات أحدها في غيبهم وخلواتهم وحيث لا يطلع عليهم أحد وهذا أرجحها، والثاني أنهم يخشون الله تعالى على أمره تعالى غائب وإنما استدلوا بدلائل لا بمشاهدة، والثالث أنهم يخشون الله ربهم بما أعلمهم به مما غاب عنهم من أمر آخرتهم ودنياهم، و «الإشفاق» أشد الخشية و {الساعة} القيامة.
{الذين يخشون ربهم بالغيب}... وفي معنى الغيب وجوه: أحدها: يخشون عذاب ربهم فيأتمرون بأوامره وينتهون عن نواهيه وإيمانهم بالله غيبي استدلالي، فالعباد يعملون لله في الغيب والله لا يغيب عنه شيء عن ابن عباس رضي الله عنهما. وثانيها: يخشون ربهم وهم غائبون عن الآخرة وأحكامها. وثالثها: يخشون ربهم في الخلوات إذا غابوا عن الناس وهذا هو الأقرب، والمعنى أن خشيتهم من عقاب الله لازم لقلوبهم إلا أن ذلك مما يظهرونه في الملا دون الخلا. {وهم من} عذاب {الساعة} وسائر ما يجري فيها من الحساب والسؤال {مشفقون} فيعدلون بسبب ذلك الإشفاق عن معصية الله تعالى.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
أي يخشَون عذابه تعالى وهو غائبٌ عنهم غيرُ مشاهد لهم، ففيه تعريضٌ بالكفرة حيث لا يتأثرون بالإنذار ما لم يشاهِدوا ما أنذروه،... وتقديمُ الجار لمراعاة الفواصل وتخصيصُ إشفاقهم منها بالذكر بعد وصفِهم بالخشية على الإطلاق للإيذان بكونها معظمَ المَخُوفاتِ، وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون، وإيثارُ الجملة الاسميةِ للدِلالة على ثبات الإشفاق ودوامِه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وفيه تعريض بالذين لم يهتدوا بكتاب الله تعالى بدلالة مفهوم المخالفة لقوله تعالى: {الذين يخشون ربهم بالغيب}. فمن لم يهتد بكتاب الله فليس هو من الذين يخشون ربهم بالغيب، وهؤلاء هم فرعون وقومه.
الخشية: الخوف بتعظيم ومهابة، فقد تخاف من شيء وأنت تكرهه أو تحتقره... فمعنى الخوف من الله: أن تخاف أن تكون مقصرا فيما طلب منك، وفيما كلفك به؛ لأن مقاييسه تعالى عالية، وربما فاتك من ذلك شيء...
والإشفاق بمعنى الخوف أيضا، لكنه خوف يصاحبه الحذر مما تخاف، فالخوف من الله مصحوب بالمهابة، والخوف من الساعة مصحوب بالحذر منها.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} لأنهم إذا لم يكونوا قد رأوه بعيونهم فقد عرفوه بقلوبهم، وأحسوا به بوجدانهم، وعاشوا معه في عقولهم ومشاعرهم، وشاهدوه في كل آية من آيات عظمته، حتى أنهم يقفون أمامه وجهاً لوجه، في إحساس عظيم بحضوره في حياتهم كأقوى ما يكون الحضور، وفي التزام كبير بالخط المستقيم الذي يؤدي إليه، كأعمق ما يكون الالتزام، في شعور بالخوف والخضوع والرهبة، وتعبير صارخ بالعبادة والابتهال، {وَهُمْ مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} فكأنهم ينتظرون حلولها بين لحظة وأخرى ليواجهوا عندها مسألة المصير بين يدي الله، في النتائج الإيجابية والسلبية للحياة التي عاشوها من قبل.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
وأمّا «الإشفاق» فيعني الاهتمام والحبّ المقترن بالخوف، وهذا التعبير يستعمل أحياناً في شأن الأولاد أو الأصدقاء الذين يحبّهم الإنسان، إلاّ أنّه يخاف عليهم في الوقت نفسه من تعرّضهم للبلايا والأمراض مثلا. وفي الواقع فإنّ المتّقين يحبّون يوم القيامة، لأنّه مكان الثواب والرحمة، إلاّ أنّهم في الوقت نفسه مشفقون من حساب الله فيه.