قوله تعالى : { ولما جاءهم رسول من عند الله } . يعني محمداً .
قوله تعالى : { مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم } . يعني التوراة وقيل : القرآن .
قوله تعالى : { كأنهم لا يعلمون } . قال الشعبي : كانوا يقرؤون التوراة ولا يعلمون بها ، وقال سفيان بن عينية : أدرجوها في الحرير والديباج وحلوها بالذهب والفضة ولم يعملوا بها فذلك نبذهم .
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ }
أي : ولما جاءهم هذا الرسول الكريم بالكتاب العظيم بالحق الموافق لما معهم ، وكانوا يزعمون أنهم متمسكون بكتابهم ، فلما كفروا بهذا الرسول وبما جاء به ، { نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ } الذي أنزل إليهم أي : طرحوه رغبة عنه { وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ } وهذا أبلغ في الإعراض كأنهم في فعلهم هذا من الجاهلين وهم يعلمون صدقه ، وحقيّة{[96]} ما جاء به .
تبين بهذا أن هذا الفريق من أهل الكتاب لم يبق في أيديهم شيء حيث لم يؤمنوا بهذا الرسول ، فصار كفرهم به كفرا بكتابهم من حيث لا يشعرون .
ثم تحدث القرآن بعد ذلك عن نبذ اليهود لكتاب الله ، واتباعهم للسحر والأوهام ، فقال - تعالى - : { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ . . . }
المعنى : وحين جاء اليهود وأحبارهم رسول من عند الله ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة ، طرح فريق كبير منهم تعاليم التوراة التي تشهد بصدقه ، وراء ظهورهم ، حتى لكأنهم يجهلون أنها من عند الله
واتعبوا ما قصته واختلقته الشياطين من السحر والأوهام والمفتريات على عهد سليمان - عليه السلام - ومن هذه المفتريات والأكاذيب زعمهم أن سليمان - عليه السلام - كان ساحراً ، وما تم له ملكه العريض ، ولا ظهرت على يديه المعجزات الباهرة من تسخير الجن والريح إلا بهذا .
وقد أكذبهم الله - تعالى - في هذه الزعم بقوله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } أي : بتعلم السحر والعمل به ، كما يزعم هؤلاء { ولكن الشياطين } هم الذين { كَفَرُواْ } بتعلم السحر وتعليمه للناس ، وتعليمهم - أيضاً - ضرباً آخر منه وهو { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } من وصف السحر وما هيته وكيفية الاحتيال به ، ولقد كان المكان لا يعلمان أحدا من الناس السحر حتى ينصحاه بقولهما : إن السحر الذي نعلمك إياه القصد منه التمييز بين المطيع والعاصي ، وبين السحر والمعجزة ، فحذار أن تستعلمه فيما نهيت عنه فتكون من الكافرين ، بخلاف الشياطين فإنهم تعلموه وعلموه لغيرهم لاستعماله في الشرور والآثام ، ولإحداث التفرقة بين الزوجين ، ولكن هذا السحر الذي يتعاطاه الشياطين وأتباعهم لن يضر أحداً بذاته ، وإنما ضرره يتأتى إذا أراد الله تعالى - ذلك وشاءه ، ولقد علم أولئك النابذون لكتاب الله المؤثرون عليه اتباع السحر ، أن من استبدل السحر بكتاب الله ، فليس له نصيب من نعيم الجنة ، { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } علماً نافعاً . { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ } بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أرشدتهم إليه التوراة ، { واتقوا } المعاصي والآثام لأثيبوا مثوبة من عند الله هي خير لهم مما آثروه واختاروه على كتاب الله { لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
وقوله تعالى : { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } . . إلخ الآية .
بيان لما صدر عن اليهود من تكذيب للرسول صلى الله عليه وسلم وطرح لتعاليم كتابهم التي أمرتهم باتباعه .
أخرج ابن جرير عن السدى قال في قوله تعالى : { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها .
فاتفقت التوراة والقرآن ، فنبذوا التوراة والقرآن وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت ، فذلك قول الله { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي كأن هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود ، فنقضوا عهد الله ، لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه .
وفي وصف الرسول بأنه آت من عند الله تعظيم له ، ومبالغة في انكار عدم إيمانهم به ، وإغراء للناس جميعاً بالدخول في دعوته ، لأنه ليس رسولا من تلقاء نفسه ، وإنما هو رسول من عند الله - تعالى - :
والمراد { لِّمَا مَعَهُمْ } التوراة . وتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم لها ، معناه أن ما جاء به من تعاليم موافق لها في أصول الدين ، وأن ما جاءت به من صفات للرسول المنتظر بعد عيسى - عليه السلام - لا تنطبق إلا عليه صلى الله عليه وسلم .
وعبر - سبحانه - عن تركهم العمل بالكتاب الذي نزل لهدايتهم بالنبذ ، مبالغة في عدم اعتدادهم ، وتناسبهم إياه ، لأن أصل النبذ طرح وإلقاء ما لا يعتد به .
وفي إسناد النبذ إلى فريق من الذين أوتوا الكتاب ، سخرية بهم ، واستجهال لهم ، لأن الذين أوتوه هم الذين نبذوه ، ولو كان النابذون من المشركين لكان لهم بعض العذر لجهلهم ، ولكن أن يكون التاركون للنور هم الذين أوتوه وأكرموا به ، فذلك هو الضلال المبين .
والمراد من { كِتَابَ الله } الذي نبذوه لما جاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التوراة ، لأنهم لو كانوا مؤمنين بها حقاً ، لاتبعوا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي ذكرت صفاته فيها ، والذي وجب عليهم بقتضى كتابهم التوراة الإِيمان به ، فهم بجحودهم لنبوته ، يكونون جاحدين لتوراتهم التي شهدت له بالصدق .
وقيل المراد بكتاب الله الذي نبذوه القرآن ، لأنهم لم يؤمنوا به ، بل تركوه بعد سماعه ، وتناسوا ما اشتمل عليه من هداية وإرشاد ، مع أنه كان من المتحتم عليهم أن يتلقوه بالقبول .
والذي نراه أن الرأي الأول أرجح ، لأن النبذ يقتضي سابقة الأخذ ، في الجملة . وهو متحقق بالنسبة للتوراة ، بخلاف القرآن الكريم فإنهم لم يسبق لهم أن تمسكوا به ، ولأن مذمتهم تكون أشد وجحودهم أكثر ، إذا كان المراد بالكتاب الذي نبذوه ، هو عين الكتاب الذي نزل لهدايتهم وآمنوا به وهو التوراة .
وقوله تعالى : { وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ } كناية عن إعراضهم الشديد عنه ، وتوليهم عن تعاليمه .
تقول العرب : جعل هذا الأمر وراء ظهره ، أي تولي عنه معرضاً ، لأن ما يجعل وراء الظهر لا ينظر إلأيه ، ففي هذه الجملة الكريمة تصوير صادق لإِعراضهم عن كتاب الله - تعالى - حيث شبه - سبحانه - تركهم لكتابه ، بحالة شيء يرمى به وراء الظهر استهانة به . وفي إضافة الوراء إلى الظهر ، تأكيد لنبذ ما ترك بحيث لا يؤخذ بعد ذلك .
قال الأستاذ الإِمام : ليس المراد بنبذ الكتاب وراء ظهورهم أنهم طرحوه برمته ، وتركوا التصديق به في جملته وتفصيله .
وإنما المراد أنهم طرحوا أجزاء منه وهو ما يبشر بالنبي صلى الله عليه وسلم ويبين صفاته ويأمرهم بالإِيمان به واتباعه . فهو تشبيه لتركهم إياه وإنكاره ، بمن يلقى الشيء وراء ظهره حتى لا يراه فيتذكره ، وترك الجزء منه كتركه كله ، لأن ترك البعض يذهب بحرمة الوحي من النفس ، ويجرئ على ترك الباقي . . .
وقوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } جملة حالية ، أي طرحوه ، وراء ظهورهم مشبهين بحال من لا يعلم منه شيئاً ، ومن لا يعرف أنه كتاب الله .
وشبههم بمن لا يعلمون مع أنهم في الواقع يعلمون أنه من عند الله - حق العلم - لأنهم نبذوه مكابرة وعناداً ، ولأنهم لم يعملوا بمقتضى علمهم ومن كان هذا شأنه فهو والجاهل سواء ، في جحود الحق والانغماس في الآثام .
وقال - سبحانه - : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } بنفي الحال والاستقبال للإِشعار بأنهم قوم لا أمل فيء توبتهم وإنابتهم ، بل هم تمر بهم الأيام ، وتتوالى عليهم العظات ، ومع ذلك لا يتوبون ولا يرجعون إلى الحق ، فهم مستمرون على طرح كتاب الله في كل وقت وآن ، ومصممون على ذلك .
وقال هاهنا : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } أي : اطَّرَحَ طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم ، مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم ، أي : تركوها ، كأنهم لا يعلمون ما فيها ، وأقبلوا على تعلم السحر واتباعه . ولهذا أرادوا كيْدًا برسول الله صلى الله عليه وسلم وسَحَروه في مُشْط ومُشَاقة وجُفّ طَلْعَة ذَكر ، تحت راعوثة بئر ذي أروان . وكان الذي تولى ذلك منهم رجل ، يقال له : لبيد بن الأعصم ، لعنه الله ، فأطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ، وشفاه منه وأنقذه ، كما ثبت ذلك مبسوطًا في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين ، رضي الله عنها ، كما سيأتي بيانه{[2290]} قال{[2291]} السدي : { وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ } قال : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والقرآن ، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت ، فلم يوافق القرآن ، فذلك قوله : { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ }
وقال قتادة في قوله : { كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ } قال : إن القوم كانوا يعلمون ، ولكنهم نبذوا علمهم ، وكتموه وجحدوا به .
{ وَلَمّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مّنْ عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مّنَ الّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ كِتَابَ اللّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ }
يعني جل ثناؤه بقوله : وَلَمّا جاءَهُمْ أحبار اليهود وعلماءها من بني إسرائيل رَسُولٌ يعني بالرسول محمدا صلى الله عليه وسلم . كما :
حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي في قوله : { وَلَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ } قال : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم .
وأما قوله : { مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ }فإنه يعني به أن محمدا صلى الله عليه وسلم يصدق التوراة ، والتوراة تصدقه في أنه لله نبيّ مبعوث إلى خلقه .
وأما تأويل قوله : { وَلَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ }فإنه للذي هو مع اليهود ، وهو التوراة . فأخبر الله جل ثناؤه أن اليهود لما جاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الله بتصديق ما في أيديهم من التوراة أن محمدا صلى الله عليه وسلم نبيّ الله ، نبذَ فريقٌ ، يعني بذلك أنهم جحدوه ورفضوه بعد أن كانوا به مقرّين حسدا منهم له وبَغْيا عليه .
وقوله : { مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ }وهم علماء اليهود الذين أعطاهم الله العلم بالتوراة وما فيها .
ويعني بقوله : كِتابَ الله التوراة ، وقوله : { نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ }جعلوه وراء ظهورهم وهذا مَثَلٌ ، يقال لكل رافض أمرا كان منه على بال : قد جعل فلان هذا الأمر منه بظهر وجعله وراء ظهره ، يعني به أعرض عنه وصدّ وانصرف . كما :
حدثني موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : { وَلَمّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِن عِندِ اللّهِ مُصَدّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابِ كِتَابَ اللّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ }قال : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والقرآن ، فنبذوا التوراة وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فذلك قوله الله : { كأنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .
ومعنى قوله : { كأنّهُمْ لا يَعْلَمُونَ }كأنّ هؤلاء الذين نبذوا كتاب الله من علماء اليهود فنقضوا عهد الله بتركهم العمل بما واثقوا الله على أنفسهم العمل بما فيه لا يعلمون ما في التوراة من الأمر باتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه .
وهذا من الله جل ثناؤه إخبار عنهم أنهم جحدوا الحقّ على علم منهم به ومعرفة ، وأنهم عاندوا أمر الله فخالفوا على علم منهم بوجوبه عليهم . كما :
حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة قوله : { نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتابَ } يقول : نقض فريق مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ كَتَابَ اللّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كأنّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أي أن القوم كانوا يعلمون . ولكنهم أفسدوا علمهم وجحدوا وكفروا وكتموا .
{ ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم } كعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام . { نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله } يعني التوراة ، لأن كفرهم بالرسول المصدق لها كفر بها فيما يصدقه ، ونبذ لما فيها من وجوب الإيمان بالرسل المؤيدين بالآيات . وقيل ما مع الرسول صلى الله عليه وسلم هو القرآن . { وراء ظهورهم } مثل لإعراضهم عنه رأسا ، بالإعراض عما يرمي به وراء الظهر لعدم الالتفات إليه . { كأنهم لا يعلمون } أنه كتاب الله ، يعني أن علمهم به رصين ولكن يتجاهلون عنادا . وأعلم أنه تعالى دل بالآيتين على أن جيل اليهود أربع فرق : فرقة آمنوا بالتوراة وقاموا بحقوقها كمؤمني أهل الكتاب وهم الأقلون المدلول عليهم بقوله : { بل أكثرهم لا يؤمنون } وفرقة جاهروا بنبذ عهودها وتخطي حدودها تمردا وفسوقا ، وهم المعنيون بقوله : { نبذه فريق منهم } وفرقة لم يجاهروا بنبذها ولكن نبذوا لجهلهم بها وهم الأكثرون . وفرقة تمسكوا بها ظاهرا ونبذوها خفية عالمين بالحال ، بغيا وعنادا وهم المتجاهلون .
{ وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ } ( 101 )
وقوله تعالى : { ولما جاءهم رسول من عند الله } ، يعني به محمد صلى الله عليه وسلم ، وما { معهم } هو التوراة ، و { مصدق } نعت ل { رسول } ، وقرأ ابن أبي عبلة «مصدقاً » بالنصب( {[1012]} ) ، و { لما } يجب بها الشيء لوجوب غيره ، وهي ظرف زمان( {[1013]} ) ، وجوابها { نبذ } الذي يجيء ، و { الكتاب } الذي أتوه : التوراة ، و { كتاب الله } مفعول ب { نبذ } ، والمراد القرآن ، لأن التكذيب به نبذ ، وقيل المراد التوراة ، لأن مخالفتها والكفر بما أخذ عليهم فيها نبذ ، و { وراء ظهورهم } مثل( {[1014]} ) لأن ما يجعل ظهرياً فقد زال النظر إليه جملة ، والعرب تقول جعل هذا الأمر وراء ظهره ودبر أذنه ، وقال الفرزدق :
تميم بنَ مرٍّ لا تكونَنَّ حاجتي . . . بظهرٍ فلا يعيى عليَّ جوابُها( {[1015]} )
و { كأنهم لا يعلمون } تشبيه بمن لا يعلم( {[1016]} ) ، إذ فعلوا فعل الجاهل ، فيجيء من اللفظ أنهم كفروا على علم .
قوله : { ولما جاءهم رسول } إلخ معطوف على قوله : { أو كلما } عطف القصة على القصة لغرابة هاته الشؤون . والرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم لقوله : { مصدق لما معهم } . والنبذ طرح الشيء من اليد فهو يقتضي سبق الأخذ . وكتاب الله ظاهر في أنه المراد به القرآن لأنه الأتم في نسبته إلى الله . فالنبذ على هذا مراد به تركه بعد سماعه فنزل السماع منزلة الأخذ ونزل الكفر به بعد سماعه منزلة النبذ . وقيل : المراد بكتاب الله التوراة وأشار في « الكشاف » إلى ترجيحه بالتقديم لأن النبذ يقتضي سابقة أخذ المنبوذ وهم لم يتمسكوا بالقرآن ، والأصل في إطلاق اللفظ المفرد أنه حقيقة لفظاً ومعنى وقيل المعرفة إذا أعيدت معرفة كانت عين الأولى وفيه نظر لأن ذلك في إعادة الاسم المعرف باللام ، أو تجعل النبذ تمثيلاً لحال قلة اكتراث المعرض بالشيء فليس مراداً به معناه .
وقوله : { وراء ظهورهم } تمثيل للإعراض لأن من أعرض عن شيء تجاوزه فخلفه وراء ظهره وإضافة الوراء إلى الظهر لتأكيد بُعد المتروك بحيث لا يلقاه بعد ذلك فجعل للظهر وراء وإن كان هو هنا بمعنى الوراء . فالإضافة كالبيانية وبهذا يجاب عما نقله ابن عرفة عن الفقيه أبي العباس أحمد بن عبلون أنه كان يقول : مقتضى هذا أنهم طرحوا كتاب الله أمامهم لأن الذي وراء الظهر هو الوجه وكما أن الظهر خلف للوجه كذلك الوجه وراء للظهر قال ابن عرفة : وأجيب بأن المراد أي بذكر الظهر تأكيد لمعنى وراء كقولهم من وراءِ وراء .
وقوله : { كأنهم لا يعلمون } تسجيل عليهم بأنهم عالمون بأن القرآن كتاب الله أو كأنهم لا يعلمون التوراة وما فيها من البشارة ببعثة الرسول من ولد إسماعيل .