ثم حكى - سبحانه - ما قالوه بشأن عجزهم المطلق أمام قدرة خالقهم فقال : { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } .
والظن هنا بمعنى العلم واليقين . وقوله : { نُّعْجِزَهُ } من الإِعجاز ، وهو جعل الغير عاجزا عن الحصول على ما يريد . وقوله { فِي الأرض } و { هَرَباً } فى موضع الحال .
أى : وأننا قد علمنا وتيقنا بعد إيماننا وبعد سماعنا للقرآن . . أننا فى قبضة الله - تعالى - وتحت قدرته ، ولن نستطيع الهرب من قضائه سواء أكنا فى الأرض أم فى غيرها .
فقوله : { فِي الأرض } إشارة إلى عدم قدرتهم على النجاة من قضائه - تعالى - مهما حاولوا اللجوء إلى أية بقعة من بقاعها ، ففى أى بقعة منها يكونون ، يدركهم قضاؤه وقدره .
وقوله : { وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } إشارة إلى أن هربهم إلى السماء لا إلى الأرض ، لن ينجيهم مما يريده - سبحانه - بهم .
فالمقصود بالآية الكريمة : إظهار عجزهم المطلق أمام قدرة الله - تعالى - وعدم تمكنهم من الهرب من قضائه ، سواء ألجأوا إلى الأرض ، أم إلى السماء .
وشبيه بهذه الآية الكريمة قوله - تعالى - : { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }
وقوله : { وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الأرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا } أي : نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا وأنا لا نعجزه في الأرض ، ولو أمعنا في الهرب ، فإنه علينا قادر{[29379]} لا يعجزه أحد منا .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{أن لن نعجز الله في الأرض} يعني أن لن نسبق الله في الأرض فنفوته.
{ولن نعجزه} يعني ولن نسبقه {هربا} فنفوته.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وأنا علمنا أن لن نُعجز الله في الأرض إن أراد بنا سوءا،" وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبا "إن طلبَنا فنفوته. وإنما وصفوا الله بالقدرة عليهم حيث كانوا.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
فكأنهم قالوا: لا يتهيأ لنا الفرار من عذاب الله تعالى لكثرة الأعوان والأنصار، ولا يعجز هربنا عن طلب، أو يكون قوله عز وجل: {لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا} وإن دخلنا تحت تخوم الأرضين، ولن نعجزه بالهرب على وجه الأرض، فيكون فيه إقرار بأنا لا نقدر بالحيل والأسباب أن نحترز من عذاب الله تعالى كما يتهيأ الاحتراز من ملوك الأرض بالحيل والأسباب.
ثم مثل هذا الكلام يصدر عن أهل الإسلام، لأن مثل هذا الكلام إنما يتكلم به من يخاف نقمة الله تعالى عليه والذي أيقن بالبعث، ويذكر مقامه بين يدي ربه.
وأما أهل الكفر فلم يؤمنوا بالبعث حتى يحملهم خوف العاقبة على النظر في مثل هذا.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
أي: لن نعجزه كائنين في الأرض أينما كنا فيها، ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء. وقيل: لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمراً، ولن نعجزه هرباً إن طلبنا.
وهذه صفة أحوال الجن وما هم عليه من أحوالهم وعقائدهم: منهم أخيار، وأشرار، ومقتصدون؛ وأنهم يعتقدون أنّ الله عز وجل عزيز غالب لا يفوته مطلب ولا ينجى عنه مهرب.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
فهم يعرفون قدرة الله عليهم في الأرض، ويعرفون عجزهم عن الهرب من سلطانه -سبحانه- والإفلات من قبضته، والفكاك من قدره. فلا هم يعجزون الله وهم في الأرض، ولا هم يعجزونه بالهرب منها. وهو ضعف العبد أمام الرب، وضعف المخلوق أمام الخالق. والشعور بسلطان الله القاهر الغالب. وهؤلاء الجن هم الذين يعوذ بهم رجال من الإنس! وهم الذين يستعين بهم الإنس في الحوائج! وهم الذين جعل المشركون بين الله -سبحانه- وبينهم نسبا! وهؤلاء هم يعترفون بعجزهم وقدرة الله. وضعفهم وقوة الله، وانكسارهم وقهر الله، فيصححون، لا لقومهم فحسب بل للمشركين كذلك، حقيقة القوة الواحدة الغالبة على هذا الكون ومن فيه