{ مُطَاعٍ ثَمَّ } أي : جبريل مطاع في الملأ الأعلى ، لديه{[1367]} من الملائكة المقربين جنود ، نافذ فيهم أمره ، مطاع رأيه ، { أَمِينٍ } أي : ذو أمانة وقيام بما أمر به ، لا يزيد ولا ينقص ، ولا يتعدى ما حد له ، وهذا [ كله ] يدل على شرف القرآن عند الله تعالى ، فإنه بعث به هذا الملك الكريم ، الموصوف بتلك الصفات الكاملة . والعادة أن الملوك لا ترسل الكريم عليها إلا في أهم المهمات ، وأشرف الرسائل .
رابعها : قوله - تعالى - { مطاع } أى يطيعه من معه من الملائكة المقربين .
وخامسها : قوله : - سبحانه - { ثَمَّ أَمِينٍ } و " ثم " بفتح الثاء - ظرف مكان للبعيد . والعامل ما قبله أو ما بعده ، والمعنى : أنه مطاع فى السموات عند ذى العرش ، أو أمين فيها ، أى : يؤدى ما كلفه الله - تعالى - به بدون أية زيادة أو نقص .
قال الشوكانى : ومن قال إن المراد بالرسول محمد صلى الله عليه وسلم فالمعنى : أنه ذو قوة على تبليغ الرسالة إلى الأمة ، مطاع يطيعه من أطاع الله ، أمين على الوحى .
القول في تأويل قوله تعالى : { مّطَاعٍ ثَمّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ بِالاُفُقِ الْمُبِينِ * وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رّجِيمٍ * فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } .
يقول تعالى ذكره : مُطاعٍ ثَمّ يعني جبريل صلى الله عليه وسلم ، مطاع في السماء تطيعه الملائكة أمِينٍ يقول : أمين عند الله على وحيه ورسالته ، وغير ذلك مما ائتمنه عليه . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو السائب ، قال : حدثنا عمر بن شبيب المسلي ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن أبي صالح : مُطاعٍ ثَمّ أمِينٍ قال : جبريل عليه السلام ، أمين على أن يدخل سبعين سُرادقا من نور بغير إذن .
حدثنا محمد بن منصور الطوسيّ ، قال : حدثنا عمر بن شبيب ، قال : حدثنا إسماعيل بن أبي خالد ، قال : لا أعلمه إلا عن أبي صالح ، مثله .
حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الأقطع ، قال : ثني أبي عمر بن خالد ، عن معقل بن عبيد الله الجَزَريّ ، قال : قال ميمون بن مهْران في قوله : مُطاعٍ ثَمّ أمِينٍ قال : ذاكم جبريل عليه السلام .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، في قوله : ذِي قُوّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمّ أمِينٍ قال : يعني جبريل .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ذِي قُوّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ مطاع عند الله ثَمّ أمِينٍ .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : مُطّاعٍ ثَمّ أمِينٍ يعني جبريل عليه السلام .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره:"مُطاعٍ ثَمّ "يعني جبريل صلى الله عليه وسلم، مطاع في السماء تطيعه الملائكة "أمِينٍ" يقول: أمين عند الله على وحيه ورسالته، وغير ذلك مما ائتمنه عليه...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قيل: إن جبرائيل عليه الصلاة والسلام، رسول إلى الملائكة كما هو رسول إلى الناس. فإن كان كذلك ففيه إخبار أن الملائكة الذين يعبدهم بعض الكفرة يطيعون جبرائيل عليه الصلاة والسلام، في ما يأمرهم، وينهاهم، فما بالهم يتركون طاعته والائتمار بأمره؟
وقوله تعالى: {ثم أمين} أي هم يأتمنون به، ولا يتهمونه في شيء مما يجيء به إليهم، فكيف يتهمه هؤلاء في ما يأتي إلى الرسول من الوحي؟...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{ثَمَّ} إشارة إلى الظرف المذكور، أعني: عند ذي العرش، على أنه عند الله مطاع في ملائكته المقرَّبين يصدرون عن أمره ويرجعون إلى رأيه. وقرئ «ثُم» تعظيماً للأمانة. وبياناً لأنها أفضل صفاته المعدودة...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
أي مقبول القول مصدق بقوله مؤتمن على ما يرسل به،... وذكر الله تعالى نفسه بالإضافة إلى عرشه تنبيهاً على عظم ملكوته...
{أمين} على وحي الله ورسالاته، قد عصمه الله من الخيانة والزلل...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
أي: له وجاهة، وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى... من السادة والأشراف، مُعتَنى به، انتخب لهذه الرسالة العظيمة. وقوله: {أَمِينٍ} صفة لجبريل بالأمانة، وهذا عظيم جدا أن الرب عز وجل يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمدا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{مطاع ثم} أي في الملأ الأعلى فهم عليهم السلام أطوع شيء له، قال الحسن: فرض الله على أهل السماوات طاعة جبريل عليه الصلاة والسلام كما فرض على أهل الأرض طاعة محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان ذلك يقتضي الأمانة، صرح بها فقال: {أمين} أي بليغ الأمانة فهو مصدق القول مقبول الأمر موثوق به في أمر الرسالة وإفاضة العلوم على القلوب روحاني مطهر جوهراً وفعلاً وحالاً، ومن كان بهذه الصفات العظيمة كان بحيث لا يأتي إلاّ في أمر مهم جداً لأن الملوك لا يرسلون خواصهم إلا- في مثل ذلك، ولذلك ائتمنه الله تعالى على رسالته...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
الوصف الرابع: {مطاع} أن يطيعه من معه من الملائكة كما يطيع الجيش قائدهم،... و {ثَمَّ} بفتح الثاء اسم إشارة إلى المكان، والمشار إليه هو المكان المجازي الذي دلّ عليه قوله: {عند ذي العرش} فيجوز تعلق الظرف ب {مطاع} وهو أنسب لإجراء الوصف على جبريل، أي مطاع في الملأ الأعلى فيما يأمر به الملائكة والنبي صلى الله عليه وسلم مطاعٌ في العالم العلوي، أي مقرَّر عند الله أن يطاع فيما يأمر به. ويجوز أن يتعلق ب {أمين}، وتقديمه على متعلَّقه للاهتمام بذلك المكان، فوصف جبريل به ظاهر أيضاً، ووصف النبي صلى الله عليه وسلم به لأنه مقررةٌ أمانته في الملأ الأعلى. والأمين: الذي يحفظ ما عُهد له به حتى يؤدّيه دون نقص ولا تغيير، وهو فعيل إما بمعنى مفعول، أي مأمون من أمنه على كذا. وعلى هذا يقال: امرأة أمين، ولا يقال: أمينة، وإما صِفة مشبهة من أمُن بضم الميم إذا صارت الأمانة سجيته...