ولما كان المقصود بيان الحق ، ذكر تعالى طريقه ، فقال : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ } في علمهم بصدقك وصدق ما جئت به { أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ } وهذا كلام مختصر جامع ، فيه من الآيات البينات ، والدلالات الباهرات ، شيء كثير ، فإنه كما تقدم إتيان الرسول به بمجرده وهو أمي ، من أكبر الآيات على صدقه .
ثم عجزهم عن معارضته ، وتحديه إياهم{[629]} آية أخرى ، ثم ظهوره ، وبروزه جهرا علانية ، يتلى عليهم ، ويقال : هو من عند اللّه ، قد أظهره الرسول ، وهو في وقت قلَّ فيه أنصاره ، وكثر مخالفوه وأعداؤه ، فلم يخفه ، ولم يثن ذلك عزمه ، بل صرح به على رءوس الأشهاد ، ونادى به بين الحاضر والباد ، بأن هذا كلام ربي ، فهل أحد يقدر على معارضته ، أو ينطق بمباراته أو يستطيع مجاراته ؟ .
ثم إخباره عن قصص الأولين ، وأنباء السابقين{[630]} والغيوب المتقدمة والمتأخرة ، مع مطابقته للواقع .
ثم هيمنته على الكتب المتقدمة ، وتصحيحه للصحيح ، ونَفْيُ ما أدخل فيها من التحريف والتبديل ، ثم هدايته لسواء السبيل ، في أمره ونهيه ، فما أمر بشيء فقال العقل " ليته لم يأمر به " ولا نهى عن شيء فقال العقل : " ليته لم ينه عنه " بل هو مطابق للعدل والميزان ، والحكمة المعقولة لذوي البصائر والعقول [ ثم مسايرة إرشاداته وهدايته وأحكامه لكل حال وكل زمان بحيث لا تصلح الأمور إلا به ]{[631]}
فجميع ذلك يكفي من أراد تصديق الحق ، وعمل على طلب الحق ، فلا كفى اللّه من لم يكفه القرآن ، ولا شفى اللّه من لم يشفه الفرقان ، ومن اهتدى به واكتفى ، فإنه خير له{[632]} فلذلك قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } وذلك لما يحصلون فيه من العلم الكثير ، والخير الغزير ، وتزكية القلوب والأرواح ، وتطهير العقائد ، وتكميل الأخلاق ، والفتوحات الإلهية ، والأسرار الربانية .
وقوله - سبحانه - : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ . . . } كلام مستأنف من جهته - تعالى - لتوبيخهم على جهالاتهم ، والاستفهام للإِنكار ، والواو للعطف على مقدر .
والمعنى : أقالوا ما قالوا من باطل وجهل ، ولم يكفهم أنا أنزلنا عليك هذا الكتاب الناطق بالحق ، يتلى على مسامعهم صباح ومساء ، ويديهم إلى ما فيه سعادتهم ، لو تدبروه وآمنوا به ، واتبعوا أوامره ونواهيه ؟
والتعبير بقوله - سبحانه - : { يتلى عَلَيْهِمْ } ، يشير إلى أن هذه التلاوة متجددة عليهم ، وغير منقطعة عنهم ، وكان فى إمكانهم أن ينتفعوا بها لو كانوا يعقلون .
ولذا ختم - سبحانه - الآية الكريمة بقوله : { إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .
أى : إن فى ذلك الكتاب الذى أنزلناه عليك - أيها الرسول الكريم - ، والذى تتلوه عليهم صباح مساء ، لرحمة عظيمة ، وذكرى نافعة ، لقوم يؤمنون بالحق ، ويفتحون عقولهم للرشد ، لا للتعنت والجحود والعناد .
وهؤلاء الذين يطلبون الخوارق يغفلون عن تقدير فضل الله عليهم بتنزيل هذا القرآن :
( أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ؛ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) . .
وإنه للبطر بنعمة الله ورعايته التي تجل عن الشكر والتقدير . أو لم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن ? وهو يتنزل عليهم ، يحدثهم بما في نفوسهم ، ويكشف لهم عما حولهم ؛ ويشعرهم أن عين الله عليهم ، وأنه معني بهم حتى ليحدثهم بأمرهم ، ويقص عليهم القصص ويعلمهم . وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير . وهم وأرضهم وشمسهم التي تدور عليها أرضهم . . ذرات تائهة في هذا الفضاء الهائل لا يمسكهن إلا الله . والله بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل عليهم كلماته تتلى عليهم . ثم هم لا يكتفون !
( إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ) . .
فالذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم ، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل ؛ ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير . وهم الذين ينفعهم هذا القرآن ، لأنه يحيا في قلوبهم ، ويفتح لهم عن كنوزه ويمنحهم ذخائره ، ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور .
ثم احتج عليهم في طلبهم آية بأمر القرآن الذي هو أعظم الآيات ومعجز للجن والإنس فقال : { أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب } ، ثم قرر ما فيه من «الرحمة والذكرى » للمؤمنين ، فقوله { أو لم يكفهم } ، جواب لمن قال { لولا أنزل } ، وحكى الطبري أن هذه الآية نزلت بسبب قوم من المؤمنين كتبوا عن اليهود بطائق أخبروهم بشيء من التوراة فكتبوه ، فأنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال «كفى بها ضلالة قوم أن رغبوا عما آتاهم به نبيهم إلى ما أتى به غيره » ، ونزلت الآية بسببه{[9266]} .
قال الفقيه الإمام القاضي : والتأويل الأول أجرى مع نسق الآيات .
عطف على جملة : { قل إنما الآيات عند الله } [ العنكبوت : 50 ] وهو ارتقاء في المجادلة .
والاستفهام تعجيبي إنكاري . والمعنى : وهل لا يكفيهم من الآيات آيات القرآن فإن كل مقدار من مقادير إعجازه آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإن آيات القرآن زهاء ستة آلاف آية . ومقدار كل ثلاث آيات مقدار مُعجز ، فيحصل من القرآن مقدار ألفي معجزة وذلك لم يحصل لأحد من رسل الله .
و { الكتاب } : القرآن ، وعُدل عن لفظ القرآن الذي هو كالعلم عليه إلى لفظ الكتاب المعهود لإيمائه إلى معنى تعظيمه بأنه المشتهر من بين كتب الأنبياء .
وجملة : { يتلى عليهم } مستأنفة أو حال ، لأن الكتاب معلوم غير محتاج للوصف لما تشعر به مادة التلاوة من الانتشار والشيوع . واختير المضارع دون الوصف بأن يقال : متلواً عليهم ، لما يؤذن به المضارع من الاستمرار ، فحصل من مادة { يُتْلَى } ومن صيغة المضارع دلالة على عموم الأمكنة والأزمنة . وقد أشار قوله : { يُتْلى عليهم } وما بعده إلى خمس مزايا للقرآن على غيره من المعجزات .
المزية الأولى : ما أشار إليه قوله { يُتْلى عليهم } من انتشار إعجازه وعمومه في المجامع والآفاق والأزمان المختلفة بحيث لا يختص بإدْراك إعجازه فريق خاص في زمن خاص شأن المعجزات المشهودة مثل عصا موسى وناقة صالح وبرء الأكمة ، فهو يتلى ، ومن ضمن تلاوته الآيات التي تحدّت الناس بمعارضته وسجلت عليهم عجزهم عن المعارضة من قَبل محاولتهم إياها فكان كما قال فهو معجزة باقية والمعجزات الأخرى معجزات زائلة .
المزية الثانية : كونه مما يُتلى ، فإن ذلك أرفع من كون المعجزات الأخرى أحوالاً مرئية لأن إدراك المتلوّ إدراك عقلي فكري وهو أعلى من المدركات الحسية فكانت معجزةُ القرآن أليق بما يستقبل من عصور العلم التي تهيأت إليها الإنسانية .
المزية الثالثة : ما أشار إليه قوله : { إن في ذلك لرحمة } فإنها واردة مورد التعليل للتعجيب من عدم اكتفائهم بالكتاب وفي التعليل تتميم لما اقتضاه التعبير بالكتاب وب { يتلى عليهم } ، فالإشارة ب { ذلك } إلى { الكتاب } ليستحضر بصفاته كلها وللتنويه به بما تقتضيه الإشارة من التعظيم . وتنكير ( رحمة ) للتعظيم ، أي لا يقادَر قدرها . فالكتاب المتلو مشتمل على ما هو رحمة لهم اشتمال الظرف على المظروف لأنه يشتمل على إقامة الشريعة وهي رحمة وصلاح للناس في دنياهم ، فالقرآن مع كونه معجزة دالّةً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ومرشدة إلى تصديقه مثل غيره من المعجزات وهو أيضاً وسيلة علم وتشريع وآداب للمتلو عليهم وبذلك فضَل غيره من المعجزات التي لا تفيد إلا تصديق الرسول الآتي بها .
المزية الرابعة : ما أشار إليه قوله : { وذكرى } فإن القرآن مشتمل على مواعظ ونذر وتعريف بعواقب الأعمال ، وإعدادٍ إلى الحياة الثانية ، ونحو ذلك مما هو تذكير بما في تذكره خيرُ الدارين ، وبذلك فضَل غيره من المعجزات الصامتة التي لا تفيد أزيد من كون الآتية على يديه صادقاً .
المزية الخامسة : أن كون القرآن كتاباً متلواً مستطاعاً إدراك خصائصه لكل عربي ، ولكل من حذق العربية من غير العرب مثل أيمة العربية ، يبعده عن مشابهة نفثات السحرة والطلاسم ، فلا يستطيع طاعن أن يزعم أنه تخيلات كما قال قوم فرعون لموسى : { يأيها الساحر } [ الزخرف : 49 ] وقال تعالى حكاية عن المشركين حين رأوا معجزة انشقاق القمر : { وإن يروا ءاية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر } [ القمر : 2 ] ، فأشار قوله : { يعرضوا } إلى أن ذلك القول صدر عنهم في معجزة مرئية .
وعُلق بالرحمة والذكرى قوله : { لِقَوم يؤمنون } للإشارة إلى أن تلك منافع من القرآن زائدة على ما في المعجزات الأخرى من المنفعة التي هي منفعة الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه مزايا عظيمة لمعجزة القرآن حاصلة في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيبته ومستقلة عن الحاجة إلى بيانه وتكميله بالدعوة وبتكريرها .
واستحضار المؤمنين بعنوان : ( قوم يؤمنون ) دون أن يقال : للمؤمنين ، لما في لفظ قوم من الإيماء إلى أن الإيمان من مقومات قوميتهم ، أي لقوم شعارهم أن يؤمنوا ، يعني لقوم شعارهم النظر والإنصاف فإذا قامت لهم دلائل الإيمان آمنوا ولم يكابروا ظلماً وعلوّاً ، فالفعل مراد به الحال القريبة من الاستقبال . وفيه تعريض بالذين لم يكتفوا بمعجزته واقترحوا آيات أخرى لا نسبة بينه وبينها .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فلما سألوه الآية، قال الله تعالى: {أولم يكفهم} بالآية من القرآن {أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم} فيه خبر ما قبلهم، وما بعدهم، {إن في ذلك} يعني عز وجل في القرآن {لرحمة} لمن آمن به وعمل به، {وذكرى} يعني وتذكرة {لقوم يؤمنون} يعني يصدقون بالقرآن أنه من الله عز وجل، فكذبوا بالقرآن فنزل...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: أو لم يكف هؤلاء المشركين يا محمد، القائلين: لولا أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم آية من ربه، من الآيات والحجج "أنّا أنْزَلْنا عَلَيْكَ هذا الكِتابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ "يقول: يُقرأ عليهم.
"إنّ فِي ذلكَ لَرَحْمَةً" يقول: إن في هذا الكتاب الذي أنزلنا عليهم لرحمة للمؤمنين به وذكرى يتذكرون بما فيه من عبرة وعظة.
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
يعني [بالرحمة] استنقاذهم من الضلال، {لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي يريدون الإيمان ولا يقصدون العناد.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ} آية مغنية عن سائر الآيات -إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين -هذا القرآن الذي تدوم تلاوته عليهم في كل مكان وزمان فلا يزال معهم آية ثابتة لا تزول ولا تضمحلّ. كما تزول كل آية بعد كونها، وتكون في مكان دون مكان [إن في ذلك] إنّ في مثل هذه الآية الموجودة في كل مكان وزمان إلى آخر الدهر {لَرَحْمَةً} لنعمة عظيمة لا تشكر [وذكرى] وتذكرة {لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}... وقيل: أولم يكفهم، يعني اليهود: أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك...
إن كان إنزال الآية شرطا، فلا يشترط إلا إنزال آية، وقد أنزل وهو القرآن فإنه معجزة ظاهرة باقية وقوله: {أو لم يكفهم} عبارة تنبئ عن كون القرآن آية فوق الكفاية، وذلك لأن القائل إذا قال أما يكفي للمسيء أن لا يضرب حتى يتوقع الإكرام ينبئ عن أن ترك الضرب في حقه كثير فكذلك قوله: {أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب} وهذا لأن القرآن معجزة أتم من كل معجزة تقدمتها...
{إن في ذلك لرحمة} إشارة إلى أنا جعلناه معجزة رحمة على العباد ليعلموا بها الصادق، وهذا لأنا بينا أن إظهار المعجزة على يد الصادق رحمة من الله، وكان له أن لا يظهر فيبقى الخلق في ورطة تكذيب الصادق أو تصديق الكاذب، لأن النبي لا يتميز عن المتنبي لولا المعجزة، لكن الله له ذلك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وقوله: {وذكرى} إشارة إلى أنه معجزة باقية يتذكر بها كل من يكون ما بقي الزمان. ثم قال تعالى: {لقوم يؤمنون} يعني هذه الرحمة مختصة بالمؤمنين لأن المعجزة كانت غضبا على الكافرين لأنها قطعت أعذارهم وعطلت إنكارهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما أفرحهم بما كأنه تسليم لمدعاهم، وكان من البين أن لسان الحال يقول: ألم يكفهم ما جئتهم به من الآيات المرئيات والمسموعات، وعجزوا عن الإتيان بشيء منها، عطف على ذلك قوله منكراً على جهلهم وعنادهم: {أولم يكفهم} أي إن كانوا طالبين للحق غير متعنتين آية بينة مغنية عن كل آية {أنا أنزلنا} بعظمتنا {عليك الكتاب} أي الجامع لسعادة الدارين بحيث صار خلقاً لك غالباً على حركاتك وسكناتك {يتلى عليهم} أي يتجدد متابعة قراءته عليهم شيئاً بعد شيء في كل مكان وكل زمان من كل تالٍ مصدقاً لما في الكتب القديمة من نعتك وغيره من الآيات الدالة على صدقك، يتحدّون بكل شيء نزل منه مع تحديهم بما قبله من آياته صباح مساء، يصفعون بذلك مدى الدهر في أقفائهم ويدفعون، فكلما أرادوا التقدم ردوا عجزاً إلى ورائهم، فأعظم به آية باقية، إذ كل آية سواه منقضية ماضية...
ولما كان هذا أعظم من كل آية يقترحونها ولو توالى عليهم إتيانها كل يوم لدوام هذا على مر الأيام والشهور، حتى تفنى الأزمان والدهور، أشار تعالى إلى هذا العظمة، مع ما فيها من النعمة، بقوله مؤكداً على جهلهم فيما لزم من كلامهم الأول من إنكار أن يكون في القرآن آية تدلهم على الصدق: {إن في ذلك} أي إنزال الكتاب على هذا الوجه البعيد المنال البديع المثال {لرحمة} لهم لصقله صدأ القلوب في كل لحظة، وتطهيره خبث النفوس في كل لمحة {وذكرى} أي عظيمة مستمراً تذكرها.
ولما عم بالقول، خص من حيث النفع فقال: {لقوم يؤمنون} أي يمكن أن يتجدد لهم إيمان، ليس من همهم التعنت...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وهؤلاء الذين يطلبون الخوارق يغفلون عن تقدير فضل الله عليهم بتنزيل هذا القرآن:.. وإنه للبطر بنعمة الله ورعايته التي تجل عن الشكر والتقدير. أو لم يكفهم أن يعيشوا مع السماء بهذا القرآن؟ وهو يتنزل عليهم، يحدثهم بما في نفوسهم، ويكشف لهم عما حولهم؛ ويشعرهم أن عين الله عليهم، وأنه معني بهم حتى ليحدثهم بأمرهم، ويقص عليهم القصص ويعلمهم. وهم هذا الخلق الصغير الضئيل التائه في ملكوت الله الكبير. وهم وأرضهم وشمسهم التي تدور عليها أرضهم.. ذرات تائهة في هذا الفضاء الهائل لا يمسكهن إلا الله. والله بعد ذلك يكرمهم حتى لينزل عليهم كلماته تتلى عليهم. ثم هم لا يكتفون!
(إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون).. فالذين يؤمنون هم الذين يجدون مس هذه الرحمة في نفوسهم، وهم الذين يتذكرون فضل الله وعظيم منته على البشرية بهذا التنزيل؛ ويستشعرون كرمه وهو يدعوهم إلى حضرته وإلى مائدته وهو العلي الكبير. وهم الذين ينفعهم هذا القرآن، لأنه يحيا في قلوبهم، ويفتح لهم عن كنوزه ويمنحهم ذخائره، ويشرق في أرواحهم بالمعرفة والنور...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
عطف على جملة: {قل إنما الآيات عند الله} [العنكبوت: 50] وهو ارتقاء في المجادلة. والاستفهام تعجيبي إنكاري. والمعنى: وهل لا يكفيهم من الآيات آيات القرآن فإن كل مقدار من مقادير إعجازه آية على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فإن آيات القرآن زهاء ستة آلاف آية. ومقدار كل ثلاث آيات مقدار مُعجز، فيحصل من القرآن مقدار ألفي معجزة وذلك لم يحصل لأحد من رسل الله.
{الكتاب}: القرآن، وعُدل عن لفظ القرآن الذي هو كالعلم عليه إلى لفظ الكتاب المعهود لإيمائه إلى معنى تعظيمه بأنه المشتهر من بين كتب الأنبياء. وجملة: {يتلى عليهم} مستأنفة أو حال، لأن الكتاب معلوم غير محتاج للوصف لما تشعر به مادة التلاوة من الانتشار والشيوع. واختير المضارع دون الوصف بأن يقال: متلواً عليهم، لما يؤذن به المضارع من الاستمرار، فحصل من مادة {يُتْلَى} ومن صيغة المضارع دلالة على عموم الأمكنة والأزمنة. وقد أشار قوله: {يُتْلى عليهم} وما بعده إلى خمس مزايا للقرآن على غيره من المعجزات:
المزية الأولى: ما أشار إليه قوله {يُتْلى عليهم} من انتشار إعجازه وعمومه في المجامع والآفاق والأزمان المختلفة بحيث لا يختص بإدْراك إعجازه فريق خاص في زمن خاص شأن المعجزات المشهودة مثل عصا موسى وناقة صالح وبرء الأكمة، فهو يتلى، ومن ضمن تلاوته الآيات التي تحدّت الناس بمعارضته وسجلت عليهم عجزهم عن المعارضة من قَبل محاولتهم إياها فكان كما قال فهو معجزة باقية والمعجزات الأخرى معجزات زائلة.
المزية الثانية: كونه مما يُتلى، فإن ذلك أرفع من كون المعجزات الأخرى أحوالاً مرئية لأن إدراك المتلوّ إدراك عقلي فكري وهو أعلى من المدركات الحسية فكانت معجزةُ القرآن أليق بما يستقبل من عصور العلم التي تهيأت إليها الإنسانية.
المزية الثالثة: ما أشار إليه قوله: {إن في ذلك لرحمة} فإنها واردة مورد التعليل للتعجيب من عدم اكتفائهم بالكتاب وفي التعليل تتميم لما اقتضاه التعبير بالكتاب وب {يتلى عليهم}، فالإشارة ب {ذلك} إلى {الكتاب} ليستحضر بصفاته كلها وللتنويه به بما تقتضيه الإشارة من التعظيم. وتنكير (رحمة) للتعظيم، أي لا يقادَر قدرها. فالكتاب المتلو مشتمل على ما هو رحمة لهم اشتمال الظرف على المظروف لأنه يشتمل على إقامة الشريعة وهي رحمة وصلاح للناس في دنياهم، فالقرآن مع كونه معجزة دالّةً على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم ومرشدة إلى تصديقه مثل غيره من المعجزات وهو أيضاً وسيلة علم وتشريع وآداب للمتلو عليهم وبذلك فضَل غيره من المعجزات التي لا تفيد إلا تصديق الرسول الآتي بها.
المزية الرابعة: ما أشار إليه قوله: {وذكرى} فإن القرآن مشتمل على مواعظ ونذر وتعريف بعواقب الأعمال، وإعدادٍ إلى الحياة الثانية، ونحو ذلك مما هو تذكير بما في تذكره خيرُ الدارين، وبذلك فضَل غيره من المعجزات الصامتة التي لا تفيد أزيد من كون الآتية على يديه صادقاً.
المزية الخامسة: أن كون القرآن كتاباً متلواً مستطاعاً إدراك خصائصه لكل عربي، ولكل من حذق العربية من غير العرب مثل أيمة العربية، يبعده عن مشابهة نفثات السحرة والطلاسم، فلا يستطيع طاعن أن يزعم أنه تخيلات كما قال قوم فرعون لموسى: {يأيها الساحر} [الزخرف: 49] وقال تعالى حكاية عن المشركين حين رأوا معجزة انشقاق القمر: {وإن يروا ءاية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر} [القمر: 2]، فأشار قوله: {يعرضوا} إلى أن ذلك القول صدر عنهم في معجزة مرئية. وعُلق بالرحمة والذكرى قوله: {لِقَوم يؤمنون} للإشارة إلى أن تلك منافع من القرآن زائدة على ما في المعجزات الأخرى من المنفعة التي هي منفعة الإيمان بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فهذه مزايا عظيمة لمعجزة القرآن حاصلة في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم وغيبته ومستقلة عن الحاجة إلى بيانه وتكميله بالدعوة وبتكريرها. واستحضار المؤمنين بعنوان: (قوم يؤمنون) دون أن يقال: للمؤمنين، لما في لفظ قوم من الإيماء إلى أن الإيمان من مقومات قوميتهم، أي لقوم شعارهم أن يؤمنوا، يعني لقوم شعارهم النظر والإنصاف فإذا قامت لهم دلائل الإيمان آمنوا ولم يكابروا ظلماً وعلوّاً، فالفعل مراد به الحال القريبة من الاستقبال. وفيه تعريض بالذين لم يكتفوا بمعجزته واقترحوا آيات أخرى لا نسبة بينه وبينها...