قوله تعالى : { قالوا لن نبرح } أي لن نزال ، { عليه } على عبادته { عاكفين } مقيمين ، { حتى يرجع إلينا موسى } فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفاً وهم الذين لم يعبدوا العجل ، فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل ، قال للسبعين الذين معه : هذا صوت الفتنة ، فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله .
{ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ } أى : سنستمر على عبادة العجل ، وسنواظب على هذه العبادة مواظبة تامة { حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } فنرى ماذا سيكون منه .
فهم لجهالاتهم وانطماس بصائرهم ، وسوء أدبهم ، يرون أن هارون - عليه السلام - ليس أهلا للنصيحة والطاعة ، مع أنه قد خاطبهم بأحكم أسلوب ، وألطف منطق .
قال الرازى : واعلم أن هارون - عليه السلام - سلك فى هذا الوعظ أحسن الوجوه لأنه زجرهم عن الباطل - أولا - بقوله : { ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ } ثم دعاهم إلى معرفة الله - ثانيا - بقوله : { وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن } ثم دعاهم - ثالثا - إلى معرفة النبوة بقوله : { فاتبعوني } ثم دعاهم - رابعا - إلى الشرائع بقوله : { وأطيعوا أَمْرِي } .
وهذا هو الترتيب الجيد ، لأنه لا بد قبل كل شىء من إماطه الأذى عن الطريق وهو إزالة الشبهات ، ثم معرفة الله - تعالى - هى الأصل ، ثم النبوة ، ثم الشريعة : فثبت أن هذا الترتيب على أحسن الوجوه ، ولكنهم لجهلهم وعنادهم قابلوا هذا الترتيب الحسن فى الاستدلال ، بالتقليد والجمود فقالوا : { لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } .
فقال بنو إسرائيل حين وعظهم هارون وندبهم إلى الحق { لن نبرح } عابدين لهذا الإله ، { عاكفين } عليه أي لازمين له والعكوف الانحناء على الشيء من شدة ملازمته ومنه قول الراجز : [ الرجز ]
عكف النبيط يلعبون الفنزجا . . . {[2]}
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قالوا لن نبرح عليه عاكفين} قالوا: لن نبرح على العجل واقفين نعبده...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفينَ" يقول: قال عَبَدة العجل من قوم موسى: لن نزال على العجل مقيمين نعبده، حتى يرجع إلينا موسى.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
حكى الله تعالى ما أجاب به قوم موسى لهارون حين نهاهم عن عبادة العجل وأمرهم باتباعه، فإنهم "قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى "أي لن نزال لازمين لهذا العجل إلى أن يعود إلينا موسى، فننظر ما يقول...
والعكوف: لزوم الشيء مع القصد إليه على مرور الوقت، ومنه الاعتكاف في المسجد.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{لن نبرح} عابدين لهذا الإله، {عاكفين} عليه أي لازمين له والعكوف الانحناء على الشيء من شدة ملازمته.
ثم إنهم لجهلهم قابلوا هذا الترتيب الحسن في الاستدلال بالتقليد والجحود فقالوا: {لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} كأنهم قالوا: لا نقبل حجتك ولكن نقبل قول موسى وعادة المقلد ليس إلا ذاك.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما كان هذا موضع أن يسأل من جوابهم لهذا الأمر الواضح الذي لا غبار عليه، قيل: {قالوا} بفظاظة وجمود: {لن نبرح عليه} أي على هذا العجل {عاكفين} أي مقيمين مستديرين مجتمعين وإن حاربنا في ذلك {حتى يرجع إلينا موسى} فدافعهم، فهمّوا به، وكان معظمهم قد ضل، فلم يكن معه من يقوى بهم، فخاف أن يجاهد بهم الكافرين فلا يفيد ذلك شيئاً، ويقتل بعضهم فيحمى له آخرون من ذوي رحمة الأقربين، فيصير بين بني إسرائيل فرقة يبعد ضم شتاتها وتلافي دهمائها، وكانوا قد غيوا الرجوع برجوع موسى عليه السلام مع أنه لم يأمره بجهاد من ضل، إنما قال له: {وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} [الأعراف: 142] فرأى من الإصلاح اعتزالهم إلى أن يأتي.
روح المعاني في تفسير القرآن والسبع المثاني للآلوسي 1270 هـ :
الظاهر من حالهم أنهم لم يجعلوا رجوعه عليه السلام غاية للعكوف على عبادة العجل على طريق الوعد بتركها لا محالة عند رجوعه بل ليروا ماذا يكون منه عليه السلام وماذا يقول فيه، وقيل: إنهم علق في أذهانهم قول السامري: {هذا إلهكم وإله موسى فَنَسِىَ} [طه: 88] فغيوا برجوعه بطريق التعلل والتسويف وأضمروا أنه إذا رجع عليه السلام يوافقهم على عبادته وحاشاه، وهذا مبني على أن المحاورة بينهم وبين هارون عليه السلام وقعت بعد قول السامري المذكور فيكون {مِن قَبْلُ} [طه: 90] على معنى من قبل رجوع موسى، وذكر أن هذا الجواب يؤيده هذا المعنى لأن قولهم: {لَن نَّبْرَحَ} الخ يدل على عكوفهم حال قوله عليه السلام وهم لم يعكفوا على عبادته قبل قول السامري وإنما عكفوا بعده.
...سنظل على عبادته حتى يرجع موسى، فلن نمكث هذه الفترة دون إله.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
لأننا لا نركن إلا إليه، فهو النبي الأصيل الذي حمل الرسالة، وقاد المعركة، وتحمّل المسؤولية، أما أنت، فإنك مجرد شريك ووزير مساعد تابع، ولكنك لا تستقبل الوحي كما يستقبله، ولا تملك من الأمر ما يملكه، ولذلك لم يكن لك أي دور في حركة الصراع مع فرعون إلا من خلال حضورك السلبي مع موسى، فاتْرُك الأمر لموسى ليتدبره معنا، ولنتدبره معه ريثما يعود. ولم يقصِّر هارون في الدعوة والإرشاد، ولكنه لم يكن عنيفاً معهم كما كان أسلوب موسى القائم على العنف والشدة، لأنهم اعتادوا، في ما يبدو، على أن يطيعوا الأوامر الصادرة إليهم من القوي في حسابات الرهبة المرتكزة على مواقع القوة ومركز السلطة. ولم يركزوا حياتهم على أساس الفكر والتحليل والتأمُّل، فهم أقرب إلى المجتمع الذي ينفذ التعليمات من المجتمع الذي يحلل الأفكار والمواقف، تماماً ككل الشعوب التي تعيش مدة طويلة تحت الحكم الظالم الطاغي الذي يربّيها على أساس الطاعة المنفعلة بالسوط الذي يسلطه على رؤوسهم، والضغط الذي يمارسه على وجودهم. وكان موسى ينتظر من هارون أن يكون حاسماً في مثل هذه المسائل، لأن المسألة لا تتصل بالقضايا الجزئية الإجرائية، بل تتصل بالقاعدة التي ترتكز عليها الرسالة في مفاهيمها الأصيلة الأولى؛ ولهذا فقد كان رد فعله تجاه أخيه قاسياً.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
الخلاصة: إنّهم ركبوا رؤوسهم وقالوا: الأمر هو هذا ولا شيء سواه، ويجب أن نعبد العجل حتّى يرجع موسى ونطلب منه الحكم والقضاء، فلعلّه يسجد معنا للعجل! وعلى هذا فلا تتعب نفسك كثيراً، وكفّ عنّا يدك! وبهذا لم يذعن بنو إسرائيل لأمر العقل ولا لأمر خليفة قائدهم وزعيمهم أيضاً. ولكن، كما كتب المفسّرون والقاعدة تقتضي ذلك أيضاً فإنّ هارون لمّا أدّى رسالته في هذه المواجهة، ولم يقبل أكثر بني إسرائيل كلامه، ابتعد عنهم بصحبة القلّة الذين اتّبعوه، لئلاّ يكون اختلاطهم بهؤلاء دليلا على إمضاء طريقهم المنحرف.