السراج المنير في تفسير القرآن الكريم للشربيني - الشربيني  
{قَالُواْ لَن نَّبۡرَحَ عَلَيۡهِ عَٰكِفِينَ حَتَّىٰ يَرۡجِعَ إِلَيۡنَا مُوسَىٰ} (91)

{ قالوا لن نبرح عليه } أي : العجل { عاكفين } أي : مقيمين { حتى يرجع إلينا موسى } فدافعهم فهموا به ، وكان معظمهم قد ضل فلم يكن معه من يقوى بهم ، فخاف أن يجاهد بهم الكفار ، فلا يفيد ذلك شيئاً مع أن موسى لم يأمره بجهاد من ضل ، وإنما قال له : { وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } [ الأعراف ، 142 ] ، فرأى من الإصلاح اعتزالهم إلى أن يأتي .

تنبيه : إنما قال هارون ذلك شفقة على نفسه وعلى الخلق ؛ أما شفقته على نفسه ، فلأنه كان مأموراً من عند الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وكان مأموراً من عند أخيه بقوله : { اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين } [ الأعراف ، 142 ] ، فلو لم يشتغل بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لكان مخالفاً لأمر الله تعالى ، ولأمر موسى ، وذلك لا يجوز . أوحى الله تعالى إلى يوشع بن نون أني مهلك من قومك أربعين ألفاً من خيارهم ، ومائتي ألف من شرارهم ، فقال : يا رب هؤلاء الأشرار فما بال الأخيار ؟ قال : إنهم لم يغضبوا لغضبي ، وقال أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من أصبح وهمه غير الله فليس من الله في شيء ، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين ، فليس منهم » وعن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم : «مثل المؤمنين في توادِّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد » وعن عبد الله بن أبي أوفى قال : «خرجت أريد النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أبو بكر وعمر عنده ، فجاء صغير يبكي ، فقال لعمر : ضم الصبي إليك ، فإنه ضال ، فأخذه عمر ، وإذا أم الصبي تولول كاشفة عن رأسها جزعاً على ابنها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم أدرك المرأة ، فنادها ، فجاءت ، وأخذت ولدها ، وجعلت تبكي والصبي في حجرها ، فالتفتت ، فرأت النبي صلى الله عليه وسلم فاستحيت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم عند ذلك : أترون هذه رحيمة بولدها ؟ قالوا : يا رسول الله كفى بهذه رحمة ، فقال : والذي نفسي بيده إن الله أرحم بالمؤمنين من هذه بولدها » ولقد سلك هارون في موعظته أحسن الوجوه ؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولاً بقوله : { إنما فتنتم به } ، ثم دعاهم إلى معرفة الله ثانياً بقوله : { وإن ربكم الرحمن } ، ثم دعاهم ثالثاً إلى النبوة بقوله : { فاتبعوني } ، ثم دعاهم رابعاً بقوله : وأطيعوا أمري ، وهذا هو الترتيب الجيد ؛ لأنه لا بد قبل كل شيء من إماطة الأذى عن الطريق ، وهو إزالة الشبهات ، ثم معرفة الله تعالى ، فإنها هي الأصل ، ثم النبوة ، ثم الشريعة ، فثبت أن هذا الترتيب أحسن الوجوه ؛ لأنه زجرهم عن الباطل أولاً .