وبعد أن بين - سبحانه - أن كل نفس عليها حافظ يسجل عليها أعمالها ، أتبع ذلك بأمر الإِنسان بالتفكر فيما ينفعه ، بأن يعتبر بأول نشأته ، وليعلم أن من خلقه من ماء مهين ، قادر على إعادته إلى الحياة مرة أخرى ، فقال - تعالى - : { فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ . خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ . يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب . . . } .
والفاء فى قوله { فَلْيَنظُرِ . . . } للتفريع على ما تقدم ، وهى بمعنى الفصيحة ، وقوله : { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } جواب الاستفهام فى قوله - سبحانه - { مِمَّ خُلِقَ } والمقصود بالاستفهام هنا : الحث والحض على التفكر والتدبر .
و " دافق " اسم فاعل من الدفق ، وهو الصب للشئ بقوة وسرعة ، يقال : تدفق الماء إذا سال باندفاع وسرعة . والمراد به هنا : الماء الذى تخرج من الرجل ويصب فى رحم المرأة .
والصلب : يطلق على فقار الظهر بالنسبة للرجل ، والترائب : جمع تربية ، وهى العظام التى تكون فى أعلى صدر المرأة ، ويعبرون عنها بقولهم موضع القلادة من المرأة .
أى : إذا كان الأمر كما ذكرت لكم - أيها الناس - ، من أن كل نفس عليها حافظ يسجل عليها أقوالها وأفعالها . . فلينظر الإِنسان منكم نظر تأمل وتدبر واعتبار ، وليسأل نفسه من أى شئ عليها أقوالها وأفعالها . . فلينظر الإِنسان منكم نظر تأمل وتدبر واعتبار ، وليسأل نفسه من أى شئ خلق ؟ لقد خلقه الله - تعالى - بقدرته ، من ماء متدفق ، يخرج بقوة وسرعة من الرجل ، ليصب فى رحم الأنثى .
وهذا الماء الدافق من صفاته أنه يخرج من بين صلب الرجل ، ومن بين ترائب المرأة ، حيث يختلط الماءان ، ويتكون منهما الإِنسان فى مراحله المختلفة بقدرة الله - تعالى - .
قال صاحب الكشاف : فإن قلت : ما وجه اتصال قوله : { فلينظر } بما قبله ؟
قلت : وجه اتصاله به أنه لما ذكر أن على كل نفس حافظا ، أتبعه بتوصية الإِنسان بالنظر فى أول أمره . ونشأته الأولى ، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه ، فيعمل ليوم الإِعادة والجزاء ، ولا يملى على حافظه إلا ما يسره فى عاقبته .
" مم خلق " استفهام جوابه : { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } ، والدفق : صَبٌّ فيه دفع .
ومعنى " دافق " النسبة إلى الدفق الذى هو مصدر دفق ، كالابن والتامر . أو الإِسناد المجازى ، والدفق فى الحقيقة لصاحبه .
ولم يقل ماءين لامتزاجهما فى الرحم ، واتحادهما حين ابتدئ فى خلقه . .
وقال بعض العلماء : قوله : { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } أى : من ماء ذى دفق . . وكل من منى الرجل . ومنى المرأة ، اللذين يتخلق منهما الجنين ، ذو وفق فى الرحم .
ثم بادر اللفظ إلى الجواب{[11736]} اقتضاباً وإسراعاً إلى إقامة الحجة ، إذ لا جواب لأحد إلا هذا ، و { دافق } ، قال كثير : هو بمعنى : مدفوق ، وقال الخليل وسيبويه : هو على النسب أي ذي دفق ، والدفق : دفق الماء بعضه إلى بعض ، تدفق الوادي والسيل ، إذا جاء يركب بعضه بعضاً ، ويصح أن يكون الماء دافقاً ، لأن بعضه يدفع بعضاً ، فمنه { دافق } ومنه مدفوق .
ومعنى { دافق } خارج بقوة وسرعة والأشهر أنه يقال على نطفة الرجل .
وصيغة { دافق } اسم فاعل من دفق القاصر ، وهو قول فريق من اللغويين . وقال الجمهور : لا يستعمل دفَق قاصراً . وجعلوا دافقاً بمعنى اسم المفعول وجعلوا ذلك من النادر .
وعن الفراء : أهل الحجاز يجعلون المفعول فاعلاً ، إذا كان في طريقة النعت . وسيبويه جعله من صيغ النسب كقولهم : لاَبن وتَامِر ، ففسر دافق : بذي دَفْق .
والأحسن أن يكون اسم فاعل ويَكون دفق مطاوع دفقه كما جعل العجاج جَبَر بمعنى انْجبر في قوله :
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم فسر الماء الدافق، فقال: خلق من ماء الرجل، والمرأة والتصق بعضه على بعض فخلق منه...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فلينظر الإنسان المكذّب بالبعث بعد الممات، المُنكر قُدرة الله على إحيائه بعد مماته،" مِمّ خُلِقَ "يقول: من أيّ شيء خلقه ربه؟ ثم أخبر جلّ ثناؤه عما خلقه منه، فقال: "خُلِقَ مِنْ ماءٍ دَافِقٍ" يعني: من ماء مدفوق، وهو مما أخرجته العرب بلفظ فاعل، وهو بمعنى المفعول...
الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي 427 هـ :
... والدفق: الصب، تقول العرب للموج إذا علا وانحط: تدفق واندفق وأراد من مائين: ماء الرجل وماء المرأة؛ لأن الولد مخلوق منهما، ولكنه جعله ماء واحداً لامتزاجهما...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فالدفق هو صب الماء الكثير باعتماد قوي، ومثله الدفع، فالماء الذي يكون منه الولد يكون دفقا وهي النطفة التي يخلق الله منها الولد إنسانا أو غيره،...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
ثم بادر اللفظ إلى الجواب اقتضاباً وإسراعاً إلى إقامة الحجة، إذ لا جواب لأحد إلا هذا...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{خلق} أي الإنسان على أيسر وجه وأسهله بعد خلق أبيه آدم عليه الصلاة والسلام من تراب، وأمه حواء عليها السلام من ضلعه {من ماء دافق} أي هو -لقوة دفق الطبيعة له- كأنه يدفق بنفسه فهو إسناد مجازي، والدفق لصاحبه...
ولم يقل: ماءين -إشارة إلى أنهما يجتمعان في الرحم و يمتزجان أشد امتزاج بحيث يصيران ماءً واحداً...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ومعنى {دافق} خارج بقوة وسرعة...
{من ماء دافق} أسندت دفقاً للماء، مما يدل على أنه غير مدفوق بإرادة الإنسان؛ لأن هذه العملية لو لاحظها الإنسان، يجد أنه يُغلب على هذه المسألة، بحيث أنه لا خيار له في تدفق هذا الماء منه، فكأن الدفق خاصية موجودة في الماء ذاته، وينزل بالشدة والقوة، بحيث لو أراد الإنسان أن يمنعه ما استطاع، ولذلك لم يقل: «من ماء مدفوق»، لكي لا يكون الفعل للغير، بل دافق، فيحن ينضج الرجل، ويصل إلى القمة الجنسية، يغلبه ذلك الماء، بحيث لا يستطيع مطلقاً أن يمنعه.
فنسبة التدفق إلى الماء ينبهك إلى أنه خرج رغم إرادة ذلك الإنسان، هو فقط له أن يمنع الوسائل التي تؤدي إليه، لكنه إذا ترك تلك الوسائل فلا قدرة له عليه أبداً.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {من ماء دافق، يخرج من بين الصلب والترائب} أوهم كثيراً من الباحثين أن ماء الرجل الذي نسميه نطفة من مني يمنى، وماء المرأة يظنون أنه الماء الذي يأتي عقب العملية الجنسية، نقول لهم: لا، بل إن ماء المرأة في العملية الجنسية لا دخل له في تكوين الإنسان، فإن المرأة تفرز البويضة سواء تعرضت لعملية جنسية أم لم تتعرض لها، والبويضة لها وقت توجد فيه، فإن صادفت وجود ماء الرجل تم التخصيب بإذن الله سبحانه وتعالى وتنتهي المسألة.
إذن فالمراد بكلمة:"ماء دافق"، هو ذلك الماء الذي ينزل في العملية الجنسية من الرجل، ولكنه بالنسبة للمرأة ليس بالماء الذي يأتي في العملية الجنسية، بل هو البويضة نفسها، سواء تعرضت لعملية جنسية أو لم تتعرض.