عرضت هذه السورة طائفة من أهوال الساعة بأسلوب مؤذن بتحقيق الوقوع في يوم تعلم فيه كل نفس ما قدمت وما أخرت ، وانتقلت الآيات إلى تحذير الإنسان المغرور بربه الذي خلقه فسواه فركبه في أبدع صورة وأحسن تقويم . مقررة تكذبيه بيوم الدين . مؤكدة وجود ملائكة عليه حافظين كراما كاتبين ، وعقبت ذلك بما يكون للأبرار من نعيم ، وما يكون للفجار من جحيم . يصلونها يوم القيامة ، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ، ويكون الأمر كله لله .
{ 1 - 5 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ }
أي : إذا انشقت السماء وانفطرت ، وانتثرت{[1369]} نجومها ، وزال جمالها ، وفجرت البحار فصارت بحرا واحدا ، وبعثرت القبور بأن أخرجت{[1370]} ما فيها من الأموات ، وحشروا للموقف بين يدي الله للجزاء على الأعمال . فحينئذ ينكشف الغطاء ، ويزول ما كان خفيا ، وتعلم كل نفس ما معها من الأرباح والخسران ، هنالك يعض الظالم على يديه إذا رأى أعماله باطلة ، وميزانه قد خف ، والمظالم قد تداعت إليه ، والسيئات قد حضرت لديه ، وأيقن بالشقاء الأبدي والعذاب السرمدي{[1371]} .
و [ هنالك ] يفوز المتقون المقدمون لصالح الأعمال بالفوز العظيم ، والنعيم المقيم والسلامة من عذاب الجحيم .
1- سورة " الانفطار " من السور المكية الخالصة ، وتسمى –أيضا- سورة " إذا السماء انفطرت " ، وسورة " المنفطرة " أي : السماء المنفطرة .
2- وعدد آياتها : تسع عشرة آية . وهي السورة الثانية والثمانون في ترتيب المصحف ، أما ترتيبها في النزول ، فكان نزولها بعد سورة ( النازعات ) ، وقبل سورة ( الانشقاق ) ، أي أنها السورة الثانية والثمانون –أيضا- في ترتيب النزول .
وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على إثبات البعث ، وعلى أهوال يوم القيامة ، وعلى تنبيه الناس إلى وجوب الاستعداد لهذا اليوم الشديد ، وعلى جانب من نعم الله على خلقه ، وعلى بيان حسن عاقبة الأبرار ، وسوء عاقبة الفجار .
قوله - سبحانه - : { إِذَا السمآء انفطرت } بيان لما ستكون عليه السماء عند اقتراب قيام الساعة .
ومعنى : { انفطرت } انشقت ، من الفطر - بفتح الفاء - بمعنى الشق ، كما قال - تعالى - فى أول سورة الانشقاق : { إِذَا السمآء انشقت } يقال : فطرت الشئ فانفطر ، أى : شققته فانشق . أى : إذا السماء تصدعت وتشققت فى الوقت الذى يريده الله - تعالى - لها أن تكون كذلك .
سورة الانفطار مكية وآياتها تسع عشرة
تتحدث هذه السورة القصيرة عن الانقلاب الكوني الذي تتحدث عنه سورة التكوير . ولكنها تتخذ لها شخصية أخرى ، وسمتا خاصا بها ، وتتجه إلى مجالات خاصة بها تطوف بالقلب البشري فيها ؛ وإلى لمسات وإيقاعات من لون جديد . هادئ عميق . لمسات كأنها عتاب . وإن كان في طياته وعيد !
ومن ثم فإنها تختصر في مشاهد الانقلاب ، فلا تكون هي طابع السورة الغالب - كما هو الشأن في سورة التكوير - لأن جو العتاب أهدأ ، وإيقاع العتاب أبطأ . . وكذلك إيقاع السورة الموسيقي . فهو يحمل هذا الطابع . فيتم التناسق في شخصية السورة والتوافق !
إنها تتحدث في المقطع الأول عن انفطار السماء وانتثار الكواكب ، وتفجير البحار وبعثرة القبور كحالات مصاحبة لعلم كل نفس بما قدمت وأخرت ، في ذلك اليوم الخطير . .
وفي المقطع الثاني تبدأ لمسة العتاب المبطنة بالوعيد ، لهذا الإنسان الذي يتلقى من ربه فيوض النعمة في ذاته وخلقته ، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها ، ولا يعرف لربه قدره ، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة : ( يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك ? في أي صورة ما شاء ركبك ) . .
وفي المقطع الثالث يقرر علة هذا الجحود والإنكار . فهي التكذيب بالدين - أي بالحساب - وعن هذا التكذيب ينشأ كل سوء وكل جحود . ومن ثم يؤكد هذا الحساب توكيدا ، ويؤكد عاقبته وجزاءه المحتوم : ( كلا . بل تكذبون بالدين . وإن عليكم لحافظين كراما كاتبين . يعلمون ما تفعلون . إن الأبرار لفي نعيم . وإن الفجار لفي جحيم . يصلونها يوم الدين . وما هم عنها بغائبين ) . .
فأما المقطع الأخير فيصور ضخامة يوم الحساب وهوله ، وتجرد النفوس من كل حول فيه ، وتفرد الله سبحانه بأمره الجليل : ( وما أدراك ما يوم الدين ? ثم ما أدراك ما يوم الدين ? يوم لا تملك نفس لنفس شيئا ، والأمر يومئذ لله ) . .
فالسورة في مجموعها حلقة في سلسلة الإيقاعات والطرقات التي يتولاها هذا الجزء كله بشتى الطرق والأساليب .
( إذا السماء انفطرت ، وإذا الكواكب انتثرت ، وإذا البحار فجرت ، وإذا القبور بعثرت . علمت نفس ما قدمت وأخرت ) . .
وقد تحدثنا في السورة الماضية عن الإيحاء الذي يتسرب في الحس من رؤية هذا الكون تتناوله يد القدرة بالتغيير ، وتهزه هزة الانقلاب المثير ، فلا يبقى شيء على حاله في هذا الكون الكبير . وقلنا : إن هذا الإيحاء يتجه إلى خلع النفس من كل ما تركن إليه في هذا الوجود ، إلا الله سبحانه خالق هذا الوجود ، الباقي بعد أن يفنى كل موجود . والاتجاه بالقلب إلى الحقيقة الوحيدة الثابتة الدائمة التي لا تحول ولا تزول ، ليجد عندها الأمان والاستقرار ، في مواجهة الانقلاب والاضطراب والزلزلة والانهيار ، في كل ما كان يعهده ثابتا مستقرا منتظما انتظاما يوحي بالخلود ! ولا خلود إلا للخالق المعبود !
ويذكر هنا من مظاهر الانقلاب انفطار السماء . . أي انشقاقها . وقد ذكر انشقاق السماء في مواضع أخرى : قال في سورة الرحمن : ( فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان ) . . وقال في سورة الحاقة : ( وانشقت السماء . فهي يومئذ واهية ) . . وقال في سورة الانشقاق : ( إذا السماء انشقت . . . ) . . فانشقاق السماء حقيقة من حقائق ذلك اليوم العصيب . أما المقصود بانشقاق السماء على وجه التحديد فيصعب القول به ، كما يصعب القول عن هيئة الانشقاق التي تكون . . وكل ما يستقر في الحس هو مشهد التغير العنيف في هيئة الكون المنظور ، وانتهاء نظامه هذا المعهود ، وانفراط عقده ، الذي يمسك به في هذا النظام الدقيق . .