( سورة الانفطار مكية ، وآياتها 19 آية ، نزلت بعد سورة النازعات )
وقد بدأت سورة الانفطار مثل سورة التكوير بالحديث عن أهوال القيامة ، لكنها تحدثت عنها في أسلوب مختصر ، وإيقاع هادئ عميق ، يمكن تقسيم السورة إلى ثلاث فقرات :
الفقرة الأولى : من بداية السورة إلى الآية الخامسة ، وتتحدث عن انفطار السماء ، وانتثار الكواكب ، وتفجير البحار ، وبعثرة القبور ، كحالات مصاحبة لعلم كل نفس بما قدّمت وأخّرت في ذلك اليوم الخطير .
الفقرة الثانية : من الآية ( 2 ) إلى الآية ( 8 ) ، وتبدأ بلمسة العتاب المبطنة بالوعيد ، لهذا الإنسان الذي يتلقى من ربه فيوض النعمة في ذاته وخلقته ، ولكنه لا يعرف للنعمة حقها ، ولا يعرف لربه قدره ، ولا يشكر على الفضل والنعمة والكرامة .
الفقرة الثالثة : من الآية ( 9 ) إلى الآية ( 19 ) ، تقرر علة الجحود والنكران ، فهي التكذيب بالدين –أي بالحساب- وعن هذا التكذيب ينشأ كل سوء وكل جحود ، ومن ثم تؤكد هذا الحساب توكيدا ، وتؤكد عاقبته وجزاءه المحتوم ، وتصور ضخامة يوم الحساب وهوله ، وتجرد النفوس من كل حول فيه ، وتفرد الله سبحانه بأمره الجليل .
تبدأ السورة بتصوير نهاية العالم واختلال نظامه ، وانفراط عقده ، ويتمثل ذلك في أمرين علويين وأمرين سفليين : أما الأمران العلويان فهما انفطار السماء وانتثار الكواكب ، وأما الأمران السفليان فهما تفجير البحار وبعثرة القبور .
1- إذا انشقت السماء وتغير نظامها ، فلم يبق نظام الكواكب على ما نرى ، وهذا عند خراب العالم بأسره .
قال تعالى : ويوم تشقّق السماء بالغمام ونزّل الملائكة تنزيلا* الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا . ( الفرقان : 25 ، 26 ) .
2- وفي هذا اليوم تتساقط الكواكب وتتفرق : وإذا الكواكب انتثرت . أي : تساقطت متفرقة ، والكواكب تجري الآن في أفلاكها بسرعات هائلة ، وهي ممسكة في داخل مداراتها لا تتعداها ، فإذا انشقت السماء تبع ذلك سقوط الكواكب وانتثارها ، وذهابها في الفضاء بددا ، كما تذهب الذرة التي تنفلت من عقالها .
3- وفي هذا اليوم تزول الحواجز بين البحار ، فيختلط العذب بالملح ، وتغمر البحار اليابسة ، وتطغى على الأنهار ، كما يحتمل أن يكون تفجيرها هو تحويل مائها إلى عنصريه : الأكسجين والهيدروجين .
4- وإذا القبور بعثرت . أي : أثيرت وقلب أعلاها أسفلها ، وباطنها ظاهرها ، ليخرج من فيها من الموتى أحياء للحساب والجزاء .
5- عند حدوث كل هذه الظواهر كل نفس ما قدّمت من الطاعات وما أخّرت من الميراث .
6- 8-يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم* الذي خلقك فسوّاك فعدلك . أي شيء خدعك حتى ضيعت ما أوجب عليه ربك ، وصرت تقصر في حقه ، وتتهاون في أمره ، ويسوء أدبك في جانبه ، وهو ربك الكريك الذي أغدق عليك من كرمه وفضله وبرّه ، فخلقك سويا ، معتدل القامة ، متناسب الخلق ، من غير تفاوت فيه ( فلم يجعل إحدى اليدين أطول ، ولا إحدى العينين أوسع ، ولا بعض الأعضاء أبيض وبعضها أسود )i .
في أي صورة ما شاء ركّبك . أي : ركبك في صورة هي من أعجب الصور وأتقنها وأحكمها ، وقد كان قادرا أن يركبك في أية صورة أخرى يشاؤها ، فاختار لك هذه الصورة السوية المعتدلة الجميلة .
وإن الإنسان لمخلوق جميل التكوين ، سوى الخلقة ، معتدل التصميم ، وإن عجائب الإبداع في خلقه لأضخم من إدراكه هو ، وأعجب من كل ما يراه حوله ، وإن الجمال والاعتدال ليظهر في تكوينه الجسدي ، وفي تكوينه العقلي ، وفي تكوينه الروحي سواء ، وهي تتناسق في كيانه في جمال واستواء .
وهناك مؤلفات كاملة في وصف كمال التكوين الإنساني العضوي ، ودقته وإحكامه ، وتؤكد جلال القدرة المبدعة التي أبدعت خلق الإنسان في أحسن تقويم ، ويسرت خلقه من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ، ثم سوّته خلقا كاملا ، فتبارك الله أحسن الخالقين . ( المؤمنون : 14 ) .
( وهذه الأجهزة العامة لتكوين الإنسان الجسدي ، الجهاز العظمي ، والجهار العضلي ، والجهاز الجلدي ، والجهاز الهضمي ، والجهاز الدموي ، والجهاز التنفسي ، والجهاز التناسلي ، والجهاز الليمفاوي ، والجهاز العصبي ، والجهاز البولي ، وأجهزة الذوق والشم والسمع والبصر ، كل منها عجيبة لا تقاس إليها كل العجائب الصناعية التي يقف الإنسان مدهوشا أمامها ، وينسى عجائب ذاته ، وهي أضخم وأعمق وأدق بما لا يقاس ) . ii .
وتقول مجلة العلوم الإنجليزية : إن يد الإنسان في مقدمة العجائب الفذة ، وإنه من الصعب جدا –بل من المستحيل- أن يبتكر آلة تضارع اليد البشرية ، من حيث البساطة والقدرة وسرعة التكييف ، فحينما تريد قراءة كتاب تتناوله بيدك ، ثم تثبته في الوضع الملائم للقراءة ، وهذه اليد هي التي تصحح وضعه تلقائيا ، وحينما تقلب إحدى صفحاته تضع أصابعك تحت الورقة ، وتضغط عليها بالدرجة التي تقلبها بها ، ثم يزول الضغط بقلب الورقة ، واليد تمسك القلم وتكتب به ، وتستعمل كافة الآلات التي تلزم الإنسان من ملعقة إلى سكين ، إلى آلة الكتابة ، وتفتح النوافذ وتغلقها ، وتحمل كل ما يريده الإنسان ، واليدان تشتملان على سبع وعشرين عظمة ، وتسع عشرة مجموعة من العضلات لكل منهما )iii .
( وإن جزءا من أذن الإنسان ( الأذن الوسطى ) هو سلسلة من نحو أربعة آلاف حنية ( قوس ) دقيقة معقدة ، متدرجة بالغ في الحجم والشكل ، ويمكن القول بأن هذه الحنيات تشبه آلة موسيقية ، ويبدو أنها معدة بحيث تلتقط وتنقل إلى المخ بشكل ما ، كل وقع صوت أو ضجة ، من قصد الرعد إلى حفيف الشجر ، فضلا عن المزيج الرائع من أنغام كل أداة موسيقية في الأوكسترا ووحدتها المنسجمة )iv .
( ومركز حاسة الإبصار في العين ، التي تحتوي على مائة وثلاثين مليونا من مستقبلات الضوء ، وهي أطراف الأعصاب ، ويقوم بحمايتها الجفن ذو الأهداب الذي يقيها ليلا ونهارا ، والذي تعتبر حركته لا إرادية ليمنع عنها الأتربة والذرات والأجسام الغريبة ، كما يكسر من حدة الشمس بما تلقى الأهداب على العين من ظلال ، وحركة الجفن علاوة على هذه الوقاية تمنع جفاف العين ، أما السائل المحيط بالعين والذي يعرف باسم الدموع ، فهو أقوى مطهر )v .
( وجهاز الذوق في الإنسان هو اللسان ، ويرجع عمله إلى مجموعات من الخلايا الذوقية القائمة في حلمات غشائه المخاطي . . . ) .
( ويتكون الجهاز العصبي- الذي يسيطر على الجسم سيطرة تامة- من شعيرات دقيقة ، تمر في جميع أنحاء الجسم ، وتتصل بغيرها أكبر منها ، وهذه بالجهاز المركزي العصبي ، فإذا ما تأثر أي جزء في الجسم ، نقلت الشعيرات العصبية هذا الإحساس إلى المخ ، حيث يمكنه أن يتصرف ) .
( ونحن إذا نظرنا إلى الهضم على أنه عملية في معمل كيماوي ، وإلى الطعام الذي نأكله على أنه مو غفل ، فإننا ندرك توّا أنه عملية عجيبة ، إذ نهضم تقريبا كل شيء يؤكل ما عدا المعدة نفسها )vi .
وكل جهاز من أجهزة الإنسان الأخرى يقال فيه الشيء الكثير ، فالإدراك العقلي ، واختزان المعلومات ، والإدراك الروحي لجلال الله ، كلها تدل على سعة عطاء الله وحكمته ، وكرمه وفضله على الإنسان .
9-12- كلاّ . ارتدعوا عن الاغترار بكرم ربكم لكم ، بل تكذبون بالحساب والمؤاخذة والجزاء ، وهذه هي علة الغرور وعلة التقصير ، وإنه لموكل بكم ملائكة يحفظونكم ويسجلون أقوالكم وأعمالكم ، ويحصونها عليكم ، وهؤلاء الملائكة كرام ، فلا تؤذوهم بما ينفرهم من المعاصي ، وإن الإنسان ليحتشم ويستحيي وهو بمحضر الكرام ، من أن يسف أو يتبذل في لفظ أو كلمة أو حركة أو تصرف ، فكيف به حين يشعر أنه في كل لحظاته في حضرة حفظة من الملائكة كرام ، لا يليق أن يطلعوا منه إلا على كل كريم من الخصال أو الفعال ؟
وهؤلاء الملائكة يكتبون كل شيء ، ولا تخفى عليهم خافية من أعمالهم ، فإنهم يعلمون ما تفعلون سرا أو علنا ، والملائكة قوى من قوى الخير ، منهم الحفظة والكتبة ، ومنهم من ينزل بالوحي على الرسل ، وقد أمدّهم الله بقوة خاصة يستطيعون بها إنجاز ما يوكل إليهم من مهام .
وليس علينا أن نبحث عن كنه هؤلاء الحفظة ، ولا عن كيفية كتابتهم لأعمالنا ، ويكفي أن يشعر القلب البشري أنه غير متروك سدى ، وأن عليه حفظة كراما كاتبين . يعلمون ما يفعله ، ليرتعش ويستيقظ ويتأدب ، وهذا هو المقصود .
13- إن الأبرار صدقوا في إيمانهم بأداء ما فرض عليهم ، واجتناب ما نهوا عنه ، وسيكونون ممتعين في نعيم الجنة .
وليس البر مقصورا على الصلاة والصيام ، ولكن البر عقيدة صادقة ، وسلوك مستقيم ، ويتمثل ذلك في القيام بالواجب ، ومعاونة المحتاج ، والاهتمام بأمر المسلمين ، والحرص على نفع العباد ، وكفّ الأذى وصلة الرحم ، وزيارة المريض ، مواساة البائس ، وتعزية المحزون ، والتخلق بآداب الدين .
قال تعالى : لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبّون وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم . ( آل عمران : 92 ) .
14-16- إن الفجرة العصاة لفي نيران متأججة ، يدخلونها يوم القيامة ، بعد أن يحاسبوا على كل صغيرة وكبيرة ، وما هم عن جهنم بغائبين قط لخلودهم فيها .
17-19- ولما كان يوم الدين هو موضوع التكذيب ، فإن السياق يعود لتعظيمه وتضخيمه فيقول : وما أدراك ما يوم الدّين . فهو فوق كل تصور ، وفوق كل توقع ، وفوق كل مألوف ، وتكرار السؤال يزيد في وصف الهول : ثم ما أدراك ما يوم الدّين . أي : ثم عجيب منك أن تتهاون بنبأ هذا اليوم وهوله الشديد ، وهو يوم لا تستطيع فيه نفس أن تنفع نفسا أخرى ، فكل نفس مشغولة بهمها وحملها عن كل من تعرف من النفوس ، والأمر كله في ذلك اليوم لله وحده ، فهو القاضي المتصرف فيه دون غيره .
2- تقصير الإنسان في مقابلة الإحسان بالشكران .
3- بيان أن أعمال الإنسان موكل بها كرام كاتبون .
4- بيان أن الناس في هذا اليوم : إما بررة منعمون ، وإما فجرة معذبون .
مشاهد القيامة ، ونعم الله على الإنسان
{ إذا السماء انفطرت 1 وإذا الكواكب انتثرت 2 وإذا البحار فجّرت 3 وإذا القبور بعثرت 4 علمت نفس ما قدّمت وأخّرت 5 يا أيها الإنسان ما غرّك بربك الكريم 6 الذي خلقك فسوّاك فعدلك 7 في أي صورة ما شاء ركّبك 8 }
إذا السماء انفطرت : تشققت وتصدّعت .
تشققت وتصدعت وتهدّم بناؤها ، وذهب تماسكها ، وصارت هلاما غير متماسك ، كدرديّ الزيت .
قال تعالى : فإذا انشقّت السماء فكانت وردة كالدهان . ( الرحمان : 37 ) .
وقال عز شأنه : ويوم تشقّق السماء بالغمام ونزّل الملائكة تنزيلا* الملك يومئذ الحق للرحمان وكان يوما على الكافرين عسيرا . ( الفرقان : 25 ، 26 ) .
وهذا المعنى ورد في السورة السابقة –سورة التكوير- وفي سور أخرى ، وتفيد مشاهد القيامة في القرآن أنه عند نهاية عمر الدنيا ينفرط عقد الكون ، ويختل توازنه ، ويذهب تماسكه وتكامله .
وقد ذكر هنا أمران علويان ، هما : انفطار السماء ، وتناثر الكواكب ، وأمران في الأرض ، هما : انفجار البحار ، وتبعثر القبور .
والمقصود : العظة والاعتبار واستيلاء الهول على قلب الإنسان حتى يعمل الصالحات ، ويتجنّب الموبقات .