قوله :{ تلفح وجوههم النار } . أي : تسفع ، وقيل : تحرق ، { وهم فيها كالحون } عابسون .
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة ، أنبأنا محمد بن أحمد الحارثي ، أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي ، أنبأنا عبد الله بن محمود ، أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ، أنبأنا عبد الله بن المبارك ، عن سعيد بن يزيد ، عن أبي السمح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( وهم فيها كالحون ) قال : تشويه النار ، فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تضرب سرته " . وبهذا الإسناد عن عبد الله بن المبارك عن حاجب ابن عمر عن الحكم عن الأعرج عن أبي هريرة قال : " يعظم الكافر في النار مسيرة سبع ليال ، فيصير ضرسه مثل أحد ، وشفاههم عند سررهم ، سود زرق مقبوحون " .
{ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } واللفح : الإحراق الشديد يقال : فلان لفحته النار تلفحه لفحا ولفحانا إذا أحرقته .
والكلوح ، هو أن تتقلص الشفتان ، وتتكشف الأسنان ، لأن النار قد أحرقت الشفتين ، كما يشاهد - والعياذ بالله - رأس الشاة بعد شويها .
أى : تحرق النار وجوه هؤلاء الأشقياء ، وهم فيها متقلصو الشفاه عن الأسنان ، من أثر ذلك الإحراق واللفح .
{ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ } ، كما قال تعالى : { وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ } [ إبراهيم : 50 ] ، وقال { لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ } [ الأنبياء : 39 ] .
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا فَرْوَة بن أبي المغراء{[20686]} ، حدثنا محمد بن سلمان الأصبهاني ، عن أبي سِنَان ضِرَار بن مُرَّة ، عن عبد الله بن أبي الهذيل ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إن جهنم لما سيق [ إليها ]{[20687]} أهلها يلقاهم{[20688]} لهبها ، ثم تلفحهم لفحة ، فلم يبق لحم إلا سقط على العرقوب " . {[20689]} وقال ابن مردويه : حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى الفَزَّاز ، حدثنا الخضر بن علي بن يونس القطان ، حدثنا عمر بن أبي الحارث بن الخضر القَطَّان ، حدثنا سعد بن سعيد{[20690]} المقبري ، عن أخيه ، عن أبيه ، عن أبي الدرداء ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ } قال : " تلفحهم لفحة ، فتسيل لحومهم على أعقابهم " {[20691]} .
وقوله : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : يعني عابسون .
وقال الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قال : ألم تر إلى الرأس المُشَيَّط الذي قد بدا أسنانه وقَلَصت شفتاه .
وقال الإمام أحمد ، رحمه الله : أخبرنا علي بن إسحاق ، أخبرنا عبد الله - هو ابن المبارك ، رحمه الله - أخبرنا سعيد بن يزيد ، عن أبي السَّمْح ، عن أبي الهيثم ، عن أبي سعيد الخُدْري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } ، قال : " تَشْويه النار فَتَقَلَّصُ شفته العليا حتى تبلغ وَسَطَ رأسه ، وتسترخي شفته السفلى حتى تَضْرب سُرَّته " .
ورواه الترمذي ، عن سُوَيْد بن نصر{[20692]} عن عبد الله بن المبارك ، به{[20693]} وقال : حسن غريب .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارَ" يقول: تَسْفَع وجوهَهم النار... قال ابن عباس: "تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النّارُ "قال: تنفَح.
"وَهُمْ فِيها كالحُونَ"، والكُلوح: أن تتقلّص الشفتان عن الأسنان حتى تبدو الأسنان...
فتأويل الكلام: يَسْفَع وجوههم لهب النار فتُحْرقها، وهم فيها متقلصو الشفاه عن الأسنان من إحراق النار وجوههم...
عن ابن عباس، في قوله: "وَهُمْ فِيها كالِحُونَ" يقول: عابسون...
قال ابن زيد، في قوله: وَهُمْ فِيها كالِحُونَ قال: ألم تر إلى الغنم إذا مست النار وجوهها كيف هي؟.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون} قال بعضهم: تلفحهم النار لفحة، فلا تدع لحما على عظم إلا ألقته... وقال بعضهم: {تلفح}: تشوي وتحرق، وذلك عادة النار أنها تعمل كل هذا العمل.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
يقال: لفح ونفح بمعنى واحد، غير أن اللفح أعظم من النفح واشد تأثيرا، وهو ضرب من السموم للوجه، والنفح ضرب الريح للوجه.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
والكلوح: انكشاف الشفتين عن الأسنان، وهذا يعتري الإنسان عند المباطشة مع الغضب، ويعتري الرؤوس عند النار، وقد شبه عبد الله بن مسعود في هذه الآية مما يعتري رؤوس الكباش إذا شيطت بالنار، فإنها تكلح، ومعه كلوح الكلب والأسد، ويستعار للزمن والخطوب.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
وخص الوجه باللفح لأنه أشرف ما في الإنسان، والإنسان أحفظ له من الآفات من غيره من الأعضاء، فإذا لفح الأشرف فما دونه ملفوح.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ومشهد لفح النار للوجوه حتى تكلح، وتشوه هيئتها، ويكدر لونها.. مشهد مؤذ أليم...
وهؤلاء الذين خفت موازينهم خسروا كل شيء. فقد خسروا أنفسهم. وحين يخسر الإنسان نفسه فماذا يملك إذن؟ وما الذي يتبقى له؟ وقد خسر نفسه التي بين جنبيه، وخسر ذاته التي تميزه، فكأنما لم يكن له وجود.
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
هذه أوصاف جهنم أو ما يصيب الذين ينزلون فيها ويخلدون، ولفح: معناها أصابتهم بحرّها وسمومها، فأجسامهم حطبها، ووجوههم تصاب بحرها وسمومها... فهم في عذاب دائم مستمر لا يسلم منه جزء من أجسامهم.
التيسير في أحاديث التفسير للمكي الناصري 1415 هـ :
إشارة إلى بوادر التعذيب التي يتعرضون لها، وتسلط على وجوههم بالخصوص، لما كان يبدو على أسارير وجوههم من أنفة وكبر عن الاعتراف بالحق، وما كان ينبعث منها من تأثير سحري على ضعاف الخلق، فتبدو وجوههم بفعل النار في غاية التشويه والبشاعة، ولا سيما شفاههم التي كانوا يسخرونها للنيل من رسل الله وأنبيائه، ووصفهم بكل شناعة،...
وقد وردت عدة آيات تؤكد معنى هذه الآية، منها قوله تعالى في سورة الكهف: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه} [الآية: 29].
بعد ذلك يخاطبهم الحق سبحانه خطابا يلقي اللوم عليهم ويحملهم مسئولية ما وصلوا إليه، فلم يعذبهم ربهم ابتداء، إنما عذبهم بعد أن أنذرهم، وأرسل إليهم رسولا يحمل منهاجا يبين ثواب الطائع وعقاب العاصي، ونبههم إلى كل شيء، ومع ذلك عصوا وكذبوا، ولم يستأنفوا عملا جديدا على وفق ما أمر الله. إذن: فهم المقصرون..
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ألسنة النّار ولهيبها المحرق تضرب وجوههم كضرب السيف (وهم فيها كالحون) وهم من شدّة الألم وعذاب النّار، في عبوس واكفهرار...
تناسب العقاب مع الذنب... كلّ ذلك عقاب للذين خفّت موازينهم وانعدم إيمانهم. ومع التوجّه لهذا المعنى، وهو أنّ هؤلاء كانوا يعبّسون حين سماع الآيات الإلهيّة وأحياناً يسخرون بها. ويجلسون يتحدّثون باستهزاء وتهكّم، فإنّ هذا العذاب يناسب أعمالهم هذه.