{ فرت من قسورة } قال مجاهد وقتادة والضحاك : القسورة : جماعة الرماة ، لا واحد لها من لفظها ، وهي رواية عطاء عن ابن عباس . وقال سعيد بن جبير : هم القناص وهي رواية عطية عن ابن عباس . وقال زيد بن أسلم هم رجال أقوياء ، وكل ضخم شديد عند العرب : قسور وقسورة . وعن أبي المتوكل قال : هي لغط القوم وأصواتهم . وروى عكرمة عن ابن عباس قال : هي حبال الصيادين . وقال أبو هريرة : هي الأسد ، وهو قول عطاء والكلبي ، وذلك أن الحمر الوحشية إذا عاينت الأسد هربت ، كذلك هؤلاء المشركين إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن هربوا منه . قال عكرمة : هي ظلمة الليل ، ويقال لسواد أول الليل قسورة .
والاستفهام فى قوله : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ . كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ . فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } للتعجيب من إصرارهم على كفرهم ، ومن إعراضهم عن الحق الذى دعاهم إليه نبيهم صلى الله عليه وسلم .
والمراد بالتذكرة : التذكير بمواعظ القرآن وإرشاداته ، والحمر : جمع حمار ، والمرادبه الحمار الوحشى المعروف بشدة نفوره وهروبه إذا ما أحس بحركة المقتنص له .
وقوله : { مُّسْتَنفِرَةٌ } أى : شديدة النفور والهرب فالسين والتاء للمبالغة .
والقسورة : الأسد ، سمى بذلك لأنه يقسر غيره من السباع ويقهرها ، وقيل : القسورة اسم الجماعة الرماة الذين يطاردون الحمر الوحشية ، ولا واحد له من لفظه ، ويطلق هذا اللفظ عند العرب على كل من كان بالغ النهاية فى الضخامة والقوة . من القسر بمعنى القهر . أى : ما الذى حدث لهؤلاء الجاحدين المجرمين ، فجعلهم يصرون إصرارا تاما على الإِعراض عن مواعظ القرآن الكريم ، وعن هداياته وإرشاداته ، وأوامره ونواهيه . . حتى لكأنهم - فى شدة إعراضهم عنه ، ونفورهم منه - حمر وحشية قد نفرت بسرعة وشدة من أسد يريد أن يفترسها ، أو من جماعة من الرماة أعدوا العدة لاصطيادها ؟
قال صاحب الكشاف : شبههم - سبحانه - فى إعراضهم عن القرآن ، واستماع الذكر والموعظة ، وشرادهم عنه - بحمر جدت فى نفارها مما أفزعها .
وفى تشبيههم بالحمر : مذمة ظاهرة ، وتهجين لحالهم بين ، كما فى قوله - تعالى - : { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } وشهادة عليهم بالبلة وقلة العقل ، ولا ترى مثل نفار حمير الوحش ، واطرادها فى العدو ، إذا رابها رائب ولذلك كان أكثر تشبيهات العرب ، فى وصف الإِبل ، وشدة سيرها ، بالحمر ، وعدوها إذا وردت ماء فأحست عليه بقانص . .
والتعبير بقوله : { فَمَا لَهُمْ . . . } وما يشبهه قد كثر استعماله فى القرآن الكريم ، كما فى قوله - تعالى - : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ . . . } والمقصود منه التعجيب من إصرار المخاطبين على باطلهم ، أو على معتقد من معتقداتهم . . مع أن الشواهد والبينات تدل على خلاف ذلك .
وقال - سبحانه - { عَنِ التذكرة } بالتعميم ، ليشمل إعراضهم كل شئ يذكرهم بالحق ، ويصرفهم عن الباطل .
وأمام هذا الموقف المهين الميئوس منه في الآخرة ، يردهم إلى موقفهم في الفرصة المتاحة لهم في الأرض قبل مواجهة ذلك الموقف ؛ وهم يصدون عنها ويعرضون ، بل يفرون من الهدى والخير ووسائل النجاة المعروضة عليهم فيها ، ويرسم لهم صورة مضحكة تثير السخرية والعجب من أمرهم الغريب :
( فما لهم عن التذكرة معرضين ? كأنهم حمر مستنفرة ، فرت من قسورة ? ) . .
ومشهد حمر الوحش وهي مستنفره تفر في كل اتجاه ، حين تسمع زئير الأسد وتخشاه . . مشهد يعرفه العرب . وهو مشهد عنيف الحركة . مضحك أشد الضحك حين يشبه به الآدميون ! حين يخافون ! فكيف إذا كانوا إنما ينفرون هذا النفار الذي يتحولون به من آدميين إلى حمر ، لا لأنهم خائفون مهددون بل لأن مذكرا يذكرهم بربهم وبمصيرهم ، ويمهد لهم الفرصة ليتقوا ذلك الموقف الزري المهين ، وذلك المصير العصيب الأليم ? !
إنها الريشة المبدعة ترسم هذا المشهد وتسجله في صلب الكون ، تتملاه النفوس ، فتخجل وتستنكف أن تكون فيه ، ويروح النافرون المعرضون أنفسهم يتوارون من الخجل ، ويطامنون من الإعراض والنفار ، مخافة هذا التصوير الحي العنيف !
{ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ } أي : كأنهم في نفارهم عن الحق ، وإعراضهم عنه حُمُر من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد ، قاله أبو هريرة ، وابن عباس - في رواية - عنه وزيد بن أسلم ، وابنه عبد الرحمن . أو : رام ، وهو رواية{[29529]} عن ابن عباس ، وهو قول الجمهور .
وقال حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن يوسف بن مهران{[29530]} عن ابن عباس : الأسد ، بالعربية ، ويقال له بالحبشية : قسورة ، وبالفارسية : شير{[29531]} وبالنبطية : أويا .
و { قسورة } قيل هو اسم جمع قسْوَر وهو الرامي ، أو هو جمع على خلاف القياس إذ ليس قياس فَعْلَل أن يجمع على فَعْلَلة . وهذا تأويل جمهور المفسرين عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغيرهما فيكون التشبيه جارياً على مراعاة الحالة المشهورة في كلام العرب .
وقيل : القسورة مُفرد ، وهو الأسد ، وهذا مروي عن أبي هريرة وزيد بن أسلم وقال ابن عباس : إنه الأسد بالحبشية ، فيكون اختلاف قول ابن عباس اختلافاً لفظياً ، وعنه : أنه أنكر أن يكون قَسْور اسمَ الأسد ، فلعله أراد أنه ليس في أصل العربية . وقد عدّه ابن السبكي في الألفاظ الواردة في القرآن بغير لغة العرب في أبيات ذكر فيها ذلك ، قال ابن سيده : القسور الأسد والقسورة كذلك ، أنثوه كما قالوا : أُسامة ، وعلى هذا فهو تشبيه مبتكر لحالة إِعراض مخلوط برُعْب مما تضمنته قوارع القرآن فاجتمع في هذه الجملة تمثيلان .
وإيثار لفظ { قسورة } هنا لصلاحيته للتشبيهين مع الرعاية على الفاصلة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.