118- ولو شاء ربك - أيها النبي - لجعل الناس على دين واحد ، مطيعين الله بطبيعة خلقتهم ، كالملائكة ، ولكان العالم غير هذا العالم ، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك ، بل تركهم مختارين ، فلا يزالون مختلفين في كل شيء ، حتى في أصول العقائد ، كالإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر ، مما لا يجوز الخلاف فيه ، تبعاً لميولهم وشهواتهم وتفكيرهم ، يتعصب كل فريق لرأيه ، وما وجد عليه آباءه .
{ 118 - 119 ْ } { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ْ }
يخبر تعالى أنه لو شاء لجعل الناس كلهم أمة واحدة على الدين الإسلامي ، فإن مشيئته غير قاصرة ، ولا يمتنع عليه شيء ، ولكنه اقتضت حكمته ، أن لا يزالوا مختلفين ، مخالفين للصراط المستقيم ، متبعين للسبل الموصلة إلى النار ، كل يرى الحق ، فيما قاله ، والضلال في قول غيره .
ثم أخبر - سبحانه - بأن قدرته لا يعجزها شئ فقال : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } .
والأمة : القوم المجتمعون على أمر واحد ؛ يقتدى فيه بعضهم ببعض ، وهذا اللفظ مأخوذ من " أم " بمعنى قصد ، لأن كل واحد من أفراد القوم يؤم المجموع ويقصده فى مختلف شئونه .
ولو شرطية امتناعية ، ومفعول فعل المشيئة محذوف والتقدير :
ولو شاء ربك - أيها الرسول الكريم الحريص على إيمان قومه - أن يجعل الناس جميعاً أمة واحدة مجتمعة على الذين الحق لجعلهم ، ولكنه - سبحانه - لم يشأ ذلك ، ليتميز الخبيث من الطيب ، وشبيه بهذه الآية قوله - تعالى - { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً . . . } وقوله - سبحانه - { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى . . . } وقوله { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ . إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } تأكيد لما اقتضته سنته من اختلاف الناس .
أى : ولا يزالون ما بقيت الدنيا مختلفين فى شأن الدين الحق ، فمنهم من دخل فيه وآمن به ، ومنهم من أعرض عنه ، إلا الذين رحمهم ربك منهم بهدايتهم إلى الصراط المستقيم من أول الأمر ، فإنهم لم يختلفوا ، بل اتفقوا على الإِيمان بالدين الحق فعصمهم الله - تعالى - من الاختلاف المذموم .
والتعقيب الأخير عن اختلاف البشر إلى الهدى وإلى الضلال ، وسنة الله المستقيمة في اتجاهات خلقه إلى هذا أو ذاك :
( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة . ولا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك - ولذلك خلقهم . وتمت كلمة ربك : لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين ) .
لو شاء الله لخلق الناس كلهم على نسق واحد ، وباستعداد واحد . . نسخا مكرورة لا تفاوت بينها ولا تنويع فيها . وهذه ليست طبيعة هذه الحياة المقدرة على هذه الأرض . وليست طبيعة هذا المخلوق البشري الذي استخلفه الله في الأرض .
ولقد شاء الله أن تتنوع استعدادات هذا المخلوق واتجاهاته . وأن يوهب القدرة على حرية الاتجاه . وأن يختار هو طريقه ، ويحمل تبعة الاختيار . ويجازي على اختياره للهدى أوللضلال . . هكذا اقتضت سنة الله وجرت مشيئته . فالذي يختار الهدى كالذي يختار الضلال سواء في أنه تصرف حسب سنة الله في خلقه ، ووفق مشيئته في أن يكون لهذا المخلوق أن يختار ، وأن يلقى جزاء منهجه الذي اختار .
يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كُلِّهم أمة واحدة ، من إيمان أو كفران{[14991]} كما قال تعالى : { وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا } [ يونس : 99 ] .
وقوله : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } أي : ولا يزال الخُلْفُ بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم .
قال{[14992]} عكرمة : { مُخْتَلِفِينَ } في الهدى{[14993]} . وقال الحسن البصري : { مُخْتَلِفِينَ } في الرزق ، يُسخّر بعضهم بعضا ، والمشهورُ الصحيح الأول .
وقوله : { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } أي : إلا المرحومين من أتباع الرسل ، الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين{[14994]} . أخبرتهم به رسل الله إليهم ، ولم يزل ذلك دأبهم ، حتى كان النبي صلى الله عليه وسلم الأمي خاتم الرسل والأنبياء ، فاتبعوه وصدقوه ، ونصروه ووازروه ، ففازوا بسعادة الدنيا والآخرة ؛ لأنهم الفرقة الناجية ، كما جاء في الحديث المروي في المسانيد والسنن ، من طرق يشد بعضها بعضا : " إن اليهود افترقت على إحدى{[14995]} وسبعين فرقة ، وإن النصارى افترقوا على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي{[14996]} على ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا فرقة واحدة " . قالوا : ومن هم يا رسول الله ؟ قال : " ما أنا عليه وأصحابي " .
رواه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة{[14997]} وقال عطاء : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } يعني : اليهود والنصارى والمجوس { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } يعني : الحنَيفيَّة .
وقال قتادة : أهلُ رحمة الله أهل الجماعة ، وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم ، وأهل معصيته أهل فرقة ، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم .
وقوله : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال الحسن البصري - في رواية عنه - : وللاختلاف خَلَقهم .
وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : خلقهم فريقين ، كقوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] .
وقيل : للرحمة خلقهم . قال ابن وهب : أخبرني مسلم بن خالد ، عن ابن أبي نَجِيح ، عن طاوس ؛ أن رجلين اختصما إليه فأكثرا{[14998]} فقال طاوس : اختلفتما فأكثرتما{[14999]} ! فقال أحد الرجلين : لذلك خلقنا . فقال طاوس : كذبت . فقال : أليس الله يقول : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : لم يخلقهم ليختلفوا ، ولكن خلقهم للجماعة والرحمة . كما قال الحكم بن أبان ، عن عِكْرِمة ، عن ابن عباس قال : للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب . وكذا قال مجاهد والضحاك وقتادة . ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] .
وقيل : بل المراد : وللرحمة والاختلاف خلقهم ، كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : الناس مختلفون على أديان شتى ، { إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ } فمن رحم ربك غير مختلف . قيل له : فلذلك خلقهم ؟ [ قال ]{[15000]} خلق هؤلاء لجنته ، وخلق هؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لرحمته ، وخلق هؤلاء لعذابه .
وكذا{[15001]} قال عطاء بن أبي رَبَاح ، والأعمش .
وقال ابن وَهْب : سألت مالكا عن قوله تعالى : { وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : فريق في الجنة وفريق في السعير .
وقد اختار هذا القول ابن جرير ، وأبو عبيدة{[15002]} والفراء .
وعن مالك فيما رويناه عنه في التفسير : { وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ } قال : للرحمة ، وقال قوم : للاختلاف .
وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره ، لعلمه التام وحكمته النافذة ، أن ممن{[15003]} خلقه من يستحق الجنة ، ومنهم من يستحق النار ، وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين الجن والإنس ، وله الحجة البالغة والحكمة التامة . وفي الصحيحين عن أبي هريرة ، رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اختصمت الجنة والنار ، فقالت الجنة : ما لي لا يدخلني إلا ضَعَفَةُ الناس وسَقطُهم ؟ وقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين . فقال الله عز وجل للجنة ، أنت رحمتي أرحم بك من أشاء . وقال للنار : أنت عذابي ، أنتقم بك ممن أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها . فأما الجنة فلا يزال فيها فضل ، حتى ينشئ الله لها خلقا يسكن فضل الجنة ، وأما النار فلا تزال تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع عليه ربّ العزة قَدمه ، فتقول : قَطْ قط ، وعزتك " {[15004]} .
المعنى : لجعلهم أمة واحدة مؤمنة - قاله قتادة - حتى لا يقع منهم كفر ولا تنزل بهم مثلة ، ولكنه عز وجل لم يشأ ذلك ، فهم لا يزالون مختلفين في الأديان والآراء والملل - هذا تأويل الجمهور - قال الحسن وعطاء ومجاهد وغيرهم : المرحومون المستثنون هم المؤمنون ليس عندهم اختلاف . وقالت فرقة : { لا يزالون مختلفين } في السعادة والشقاوة ، وهذا قريب المعنى من الأول إذ هي ثمرة الأديان والاختلاف فيها ، ويكون الاختلاف - على هذا التأويل - يدخل فيه المؤمنون إذ هم مخالفون للكفرة ؛ وقال الحسن أيضاً : لا يزالون مختلفين في الغنى والفقر .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول بعيد معناه من معنى الآية ، ثم استثنى الله تعالى من الضمير في { يزالون } من رحمه من الناس بأن هداه إلى الإيمان ووفقه له .
لمّا كان النعي على الأمم الذين لم يقع فيهم من ينهون عن الفساد فاتّبعوا الإجرام ، وكان الإخبار عن إهلاكهم بأنّه ليس ظلماً من الله وأنهم لو كانوا مصلحين لَمَا أهلكوا ، لمّا كان ذلك كله قد يثير توهّم أن تعاصي الأمم عمّا أراد الله منهم خروج عن قبضة القُدرة الإلهية أعقب ذلك بما يرفع هذا التوهّم بأنّ الله قادر أن يجعلهم أمّة واحدة متفقة على الحق مستمرّة عليه كما أمرهم أن يكونوا .
ولكن الحكمة التي أقيم عليها نظامُ هذا العالم اقتضت أن يكون نظام عقول البشر قابلاً للتطوّح بهم في مسلك الضّلالة أو في مسلك الهدى على مبلغ استقامة التفكير والنظر ، والسلامة من حجب الضلالة ، وأن الله تعالى لمّا خلق العقول صالحة لذلك جعل منها قبول الحق بحسب الفطرة التي هي سلامة العقول من عوارض الجهالة والضلال وهي الفطرة الكاملة المشار إليها بقوله تعالى : { كان الناس أمّةً واحدة } ، وتقدّم الكلام عليها في سورة [ البقرة : 213 ] . لم يدّخرهم إرشاداً أو نصحاً بواسطة الرُّسُل ودعاة الخير ومُلقّنيه من أتباع الرسل ، وهم أولو البقية الذين ينهون عن الفساد في الأرض ، فمن الناس مهتد وكثير منهم فَاسِقُونَ ولو شاء لَخلق العقولَ البشرية على إلهام متّحد لا تَعْدوه كما خلق إدراك الحيوانات العُجم على نظام لا تتخطّاه من أوّل النشأة إلى انقضاء العالم ، فنجد حال البعير والشّاة في زمن آدم عليه السّلام كحالهما في زماننا هذا ، وكذلك يكون إلى انقراض العالم ، فلا شكّ أن حكمة الله اقتضت هذا النظام في العقل الإنساني لأنّ ذلك أوفى بإقامة مراد الله تعالى من مساعي البشر في هذه الحياة الدنيا الزائلة المخلوطة ، لينتقلوا منها إلى عالم الحياة الأبديّة الخالصة إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، فلو خلق الإنسان كذلك لما كان العمل الصالح مقتضياً ثواب النعيم ولا كان الفساد مقتضياً عقاب الجحيم ، فلا جرم أنّ الله خلق البشر على نظام من شأنه طريان الاختلاف بينهم في الأخور ، ومنها أمر الصلاح والفساد في الأرض وهو أهمّها وأعظمها ليتفاوت الناس في مدارج الارتقاء ويَسْموا إلى مراتب الزلفى فتتميز أفراد هذا النوع في كل أنحاء الحياة حتى يعد الواحد بألف { ليميز اللّهُ الخبيث من الطيب } [ الأنفال : 37 ] .
وهذا وجه مناسبة عطف جملة { وتمّت كلمة ربك لأملأنّ جهنم من الجِنة والناس أجمعين } على جملتي { ولا يزالون مختلفين } { ولذلك خلقهم } .
ومفعول فعل المشيئة محذوف لأنّ المراد منه ما يُساوي مضمون جواب الشرط فحُذف إيجازاً . والتقدير : ولو شاء ربك أن يجعل الناس أمّة واحدة لجعلهم كذلك .
والأمّة : الطائفة من الناس الذين اتّحدوا في أمر من عظائم أمور الحياة كالموطن واللّغة والنّسب والدّين .
وقد تقدمت عند قوله تعالي : { كان الناس أمّةً واحدةً } في سورة [ البقرة : 213 ] . فتفسر الأمّة في كل مقام بما تدل عليه إضافتها إلى شيء من أسباب تكوينها كما يقال : الأمّة العربيّة والأمّة الإسلاميّة .
ومعنى كونها واحدة أن يكون البشر كلّهم متّفقين على اتّباع دين الحق كما يدل عليه السياق ، فآل المعنى إلى : لو شاء ربك لجعل الناس أهل ملّة واحدة فكانوا أمّة واحدة من حيث الدّين الخالص .
وفهم من شرط ( لو ) أنّ جعلهم أمّة واحدة في الدّين منتفية ، أي منتف دوامها على الوحدة في الدّين وإنْ كانوا قد وُجدوا في أوّل النشأة متّفقين فلم يلبثوا حتّى طرأ الاختلاف بينَ ابنيْ آدم عليه السّلام لقوله تعالى : { كان النّاس أمّة واحدة } [ البقرة : 213 ] وقوله : { وما كان النّاس إلاّ أمّةً واحدةً فاختلفوا } في سورة [ يونس : 19 ] ؛ فعلم أنّ الناس قد اختلفوا فيما مضى فلم يكونوا أمّة واحدة ، ثم لا يدري هل يؤول أمرهم إلى الاتّفاق في الدّين فأعقب ذلك بأنّ الاختلاف دائم بينهم لأنّه من مقتضى ما جُبِلت عليه العقول .