مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ} (118)

ثم قال تعالى : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } والمعتزلة يحملون هذه الآية على مشيئة الإلجاء والإجبار وقد سبق الكلام عليه .

ثم قال تعالى : { ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك } والمراد افتراق الناس في الأديان والأخلاق والأفعال .

واعلم أنه لا سبيل إلى استقصاء مذاهب العالم في هذا الموضع ومن أراد ذلك فليطالع كتابنا الذي سميناه «بالرياض المونقة » إلا أنا نذكر ههنا تقسيما جامعا للمذاهب . فنقول : الناس فريقان منهم من أقر بالعلوم الحسية كعلمنا بأن النار حارة والشمس مضيئة ، والعلوم البديهية كعلمنا بأن النفي والإثبات لا يجتمعان ، ومنهم من أنكرهما ، والمنكرون هم السوفطائية ، والمقرون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم ، وهم فريقان : منهم من سلم أنه يمكن تركيب تلك العلوم البديهية بحيث يستنتج منها نتائج علمية نظرية ، ومنهم من أنكره ، وهم الذين ينكرون أيضا النظر إلى العلوم ، وهم قليلون ، والأولون هم الجمهور الأعظم من أهل العالم ، وهم فريقان : منهم من لا يثبت لهذا العالم الجسماني مبدأ أصلا وهم الأقلون ، ومنهم من يثبت له مبدأ وهؤلاء فريقان : منهم من يقول : ذلك المبدأ موجب بالذات ، وهم جمهور الفلاسفة في هذا الزمان ، ومنهم من يقول : إنه فاعل مختار وهم أكثر أهل العالم ، ثم هؤلاء فريقان : منهم من يقول : إنه ما أرسل رسولا إلى العباد ، ومنهم من يقول : إنه أرسل الرسول ، فالأولون هم البراهمة .

والقسم الثاني أرباب الشرائع والأديان ، وهم المسلمون والنصارى واليهود والمجوس ، وفي كل واحد من هذه الطوائف اختلافات لا حد لها ولا حصر ، والعقول مضطربة ، والمطالب غامضة ، ومنازعات الوهم والخيال غير منقطعة ، ولما حسن من بقراط أن يقول في صناعة الطب العمر قصير ، والصناعة طويلة ، والقضاء عسر ، والتجربة خطر ، فلأن يحسن ذكره في هذه المطالب العالية والمباحث الغامضة ، كان ذلك أولى .

فإن قيل : إنكم حملتم قوله تعالى : { ولا يزالون مختلفين } على الاختلاف في الأديان ، فما الدليل عليه ، ولم لا يجوز أن يحمل على الاختلاف في الألوان والألسنة والأرزاق والأعمال .

قلنا : الدليل عليه أن ما قبل هذه الآية هو قوله : { ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة } فيجب حمل هذا الاختلاف على ما يخرجهم من أن يكونوا أمة واحدة ، وما بعد هذه الآية هو قوله : { إلا من رحم ربك } فيجب حمل هذا الاختلاف على معنى يصح أن يستثنى منه قوله : { إلا من رحم ربك } وذلك ليس إلا ما قلنا .