تأويلات أهل السنة للماتريدي - الماتريدي  
{وَلَوۡ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ ٱلنَّاسَ أُمَّةٗ وَٰحِدَةٗۖ وَلَا يَزَالُونَ مُخۡتَلِفِينَ} (118)

وقوله تعالى : ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ) قالت المعتزلة : هذه المشيئة مشيئة القهر والقسر ، وذلك مما يدفع المحنة ، وتزول لديه المثوبة والعقوبة ، وكذلك في قوله : ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا )[ يونس : 99 ] .

وأما عندنا فلو شاء لجعلهم أمة واحدة مشيئة لا تزول معها المحنة . والذي يدل عليه خصال :

أحدها : أن الله عرفنا الإيمان والدين الذي يقع به اجتماع ، أو فيه الاختلاف بما ركب فينا من العقول التي بها تعرف حقائق الأشياء ومجازاتها ومحاسن الأمور وقبحها بمعونة السمع أو بالتأمل في ما يحسن بالأمرين جميعا ، أنه[ من م ، في الأصل : به ] لا يكون إلا بالاختيار ، ولا يوصل إلى السبب الذي به يدان إلا بالاستدلال أو التعليم ؛ إذ هو طاعة وتصديق ، وذلك يكون ممن لا يحسن ، وطريقه الاجتهاد وكل ذي أضداد القسر .

فمحال أن يعود الكون ، لو شاء ، على وجه قد عرفنا أنه لا يكون سمعا وعقلا . فيكون في الحقيقة كأنه قال لو شاء أن يكون لا يكون . على أن ذا من يقبل عنه هذه الدعوى على قولهم ، وهو منذ كان الخلق بين أن كان في ما شاء إثباته من أفعال الخلق ، فلم يكن ، ولم يشأ ، فكان عندهم . فهو كمن ظهر عجزه بجميع أدلة العجز ، ثم يدعي أن له القدرة ؛ بها يقهر ما يشاء . فذلك كمن لا يقوم للانتصاب والنهوض ، فيدعي أنه يقدر على الصمود ، أو من لا يملك إمساك مثل ذرة ، أنه ممسك السموات والأرض .

على أنه لو كان كذلك ليجيء أن يكون يقدر على فعل الكفر والسفه والكذب ؛ إذ من يقدر على فعل شيء ، لا يقدر على فعل ضده عندهم ، ليس ذلك بقدرة .

ثم لو كان ذلك كله بلاء غير تصيير له فعلا ، لكان يكون في الحقيقة سفيها كذوبا . ومن كان ذلك وصفه فهو رب ، ولا حكيم . ومن ربوبيته تحت قدرة غيره ، أو حكمته تحتمل المضادات فهو مسؤول عما يفعل مطالب بالحجة . فأنى يكون لمن ذلك وصفه ربوبية ؟ جل عن ذلك .

والثاني : أن الذي يكون بالقسر والقهر يكون أمر الخليقة لا أمر فعل العبد ؛ وذلك في الحقيقة لله ، لا للبشر ، وما هو له من جهة الخلقة موجود لأن نفس كل أحد ، بالخلقة مؤمن . وقد شاء الله تلك المشيئة . فالقول ب : لو شاء ، لا معنى له ، بل قد شاء ، وكان ، ولا قوة إلا بالله .

والثالث : أنه وعد أن لو شاء أن يجعل كذا ، وهو ، لو فعل لكان يجعل من قد آمن منهم في الحقيقة مؤمنا في المجاز كافرا في الحقيقة ؛ لأنهم بهذا يصيرون أمة واحدة ؛ إذ صار منهم مؤمنين بالاختيار ، لا يحتمل أن يجعلهم على غير ذلك ، فيكون محمودا عدلا ، والله الموفق .

ثم الأصل أن الله تعالى قد جعل أدلة كل موعود في الحسن ظاهرا ، وكل مقدور عليه بالوعد ، والدعوى له مما جبل عليه أمرا بينا . وهذا النوع من المشيئة عندهم والدعوى بما جعل جميع [ ذلك ][ ساقطة من الأصل وم ] مانعا لأن يكون كائنا ، فيصير بالذي به ادعى لنفسه من القدرة مكذبا بما جعل لمنع مثله الأدلة . ومن ذلك وصفه فهو غير حكيم . جل الله عن هذا .

على أن المتأمل بما اختبر يجد حقيقته دون أن يحتاج إلى دليل يوضح قدرته على ما ادعى على بقاء المحنة سبيلا سهلا بحمد الله لا يحتاج إلى ما ذكروا من المكابرة ، وهو ما قال الله تعالى : ( ولولا أن يكون الناس أمة واحدة )[ الزخرف : 33 ] ومعلوم أنهم لو كفروا جميعا بما ذكر لكانوا مختارين ، وإلى ما جاؤوا به غير مضطرين ، وإذا استقام كونهم على دين الكفر بذلك لا يحتمل إلا [ أن ][ ساقطة من الأصل وم ] يوجب ذلك بعثا على الإيمان لو كانوا مختارين ، لذلك يستقيم كونهم على دين الإيمان مختارين ، أو لو جعل ذلك المؤمنين ، لقدر[ في الأصل وم : فيقدرون ] على قولهم أن يجعلهم كفارا بالمحنة لا يقدر على أن يجعلهم مؤمنين بها ؛ لأن ذلك وصف العجز عندهم ، وإن كان لا يكون كذلك /248-أ/ عندنا ؛ لأنه يستقيم القول بالإقدار على إحداث غيره .

ومحال القول على جعل غيره قائما أو على إخراج غيره إليه ، لا يحتمل الوصف بالقدرة على إغناء غيره عنه ، وعليهم أوضح ، إذا جازوا له القدرة على كل حركة للعبد وسكون بالاضطرار ، ولم يجوزوا في ذلك الاختيار اللهم إلا إن يقولوا : لا يجوز أن يكون للعبد غير كامل القدرة ، وهي القدرة على مضادات الأشياء ، والله يجوز الوصف له بالقدرة الناقصة فيكون قريبا مما جعلوا للعبد قدرة[ في الأصل وم : قدرا ] على ما يجهل ، ويجعله كاذبا[ من م ، في الأصل : كادكا ] في ما يخبر على بقاء الربوبية له ، والله لا يقدر على مثله في العبد على بقاء العبودة له بالمحنة ، أو بما قدروا لعبد على إهلاك من وعد الله فيه الإبقاء ، ويؤيد ذلك فضله ووعده له مع ذلك أن يعطيه كذا . فيأتي معاند ، فيقتلن ويمنع الرب على إنجاز وعده . وعن سلطان بقائه . جل الرب عن هذا .

وذلك في قولهم في ما يضرب الله لنبي أو صديق أجلا ، يرى به مصلحة عباده ، يقدر الكافر على قتله قبل مجيء ذلك الأجل وإبطال ما وعد والإبقاء بما هو صنيعه من إبقاء الحياة فيه ، ولا يقدر الله على إنجازه ما وعد على ما أراد . والعبد يحاله إلا أن يعجزه ، أو يميته ، أو يجعله زمنا ، والله المستعان .

ثم الأصل أن كل مريد بفعله في ما فعله أمرا إلا [ أن ][ ساقطة من الأصل وم ] يكون ذلك ، وهو لم يكن فعله إلا لذلك ، يوجب أحد أمرين في الحكمة : إما جهلا بالعواقب وإما[ في الأصل وم : و ] خطأ بالفعل ، كمن يفعل فعلا يحزن عليه ، يلحقه به مكروه ؛ فهو لا يفعله له ، يظهر فاعله أنه عن جهل فعل ، وعن الخطإ يخرج فعله .

وعلى ذلك معنى التحذير في الخلق والتنبيه بقولهم : لدوا للموت ، وابنوا للخراب ، و : سرق لتقطع ، [ يده ][ ساقطة من الأصل وم ] وبارز ليقتل ، من حيث كان الثاني متصلا بالأول ، ينبه عن الغفلة ، على إرادة التحذير أنه إليه يؤول أمر فعله .

على ذلك قوله تعالى : ( فالتقطه آل فرعون ) الآية[ القصص : 8 ] أو أن يقال ذلك على أنه كذلك في فعله عند الله ، وإن جهله هو ، أو يوجب السفه في الفعل والعبث ، إذ هو يقصد بفعله ما يعلم أنه لا يكون ، أو يريد ما يتيقن أنه لا يبلغ . وإذ كان كذلك فأعطاه الله تعالى القدرة ليؤمن ، أو خلقه ليعبد ، وأراد أنه يفعل ذلك ، واختار ذلك الفعل ، لذلك يوجب ذينك الوجهين ، جل الله عنهما ، وتعالى .

وقد ثبت أن الله عالم بالعواقب متعال عن العبث ، ثبت أنه خلق ، وأعطى ما أعطى لما علم أنه يكون ، وقد علم أنه ما يكون وعلى هذا التقدير يخرج الأمر في قوله :

( ولقد ذرأنا لجهنم )الآية[ الأعراف : 179 ] وقوله : ( فلا تعجبك أموالهم )الآية[ التوبة : 55و85 ] .

وقوله تعالى : ( ولا يزالون مختلفين ) أنه خلقهم للدين ؛ علم أنهم يصيرون إليه من اختلاف أو اتفاق أو عداوة أو ولاية لا يريد غير الذي علم ، ولا يعلم غير الذي يكن ممن يعلم ما يكون ، ولا قوة إلا بالله .