لما ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهوديا ، والنصارى أنه نصراني ، وجادلوا على ذلك ، رد تعالى محاجتهم ومجادلتهم من ثلاثة أوجه :
أحدها : أن جدالهم في إبراهيم جدال في أمر ليس لهم به علم ، فلا يمكن لهم ولا يسمح لهم أن يحتجوا ويجادلوا في أمر هم أجانب عنه وهم جادلوا في أحكام التوراة والإنجيل سواء أخطأوا أم أصابوا فليس معهم المحاجة في شأن إبراهيم .
الوجه الثاني : أن اليهود ينتسبون إلى أحكام التوراة ، والنصارى ينتسبون إلى أحكام الإنجيل ، والتوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعد إبراهيم ، فكيف ينسبون إبراهيم إليهم وهو قبلهم متقدم عليهم ، فهل هذا يعقل ؟ ! فلهذا قال { أفلا تعقلون } أي : فلو عقلتم ما تقولون لم تقولوا ذلك .
الوجه الثالث : أن الله تعالى برأ خليله من اليهود والنصارى والمشركين ، وجعله حنيفا مسلما ، وجعل أولى الناس به من آمن به من أمته ، وهذا النبي وهو محمد صلى الله على وسلم ومن آمن معه ، فهم الذين اتبعوه وهم أولى به من غيرهم ، والله تعالى وليهم وناصرهم ومؤيدهم ، وأما من نبذ ملته وراء ظهره كاليهود والنصارى والمشركين ، فليسوا من إبراهيم وليس منهم ، ولا ينفعهم مجرد الانتساب الخالي من الصواب . وقد اشتملت هذه الآيات على النهي عن المحاجة والمجادلة بغير علم ، وأن من تكلم بذلك فهو متكلم في أمر لا يمكن منه ولا يسمح له فيه ، وفيها أيضا حث على علم التاريخ ، وأنه طريق لرد كثير من الأقوال الباطلة والدعاوى التي تخالف ما علم من التاريخ .
ثم صرح - سبحانه - ببراءة إبراهيم من كل دين يخالف دين الإسلام فقال - تعالى - : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } .
وقوله { حَنِيفاً } من الحنف وهو ميل عن الضلال إلى الاستقامة ، بعكس الجنف فهو ميل عن الاستقامة إلى الضلال ويقال : تحنف الرجل أى تحرى طريق الاستقامة .
أى : ما كان إبراهيم - عليه السلام - فى يوم من الأيام يهوديا كما قال اليهود ، ولا نصرانيا كما قال النصارى ولكنه كان حنيفا أى مائلا عن العقائد الزائفة متحريا طريق الاستقامة وكان " مسلما " أى مستسلما لله - تعالى - منقادا له مخلصا له العبادة { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } الذين يشركون مع الله آلهة أخرى بأن يقولوا إن الله ثالث ثلاثة ، أو يقولوا عزير ابن الله أو المسيح ابن الله أو غير ذلك من الأقوال الباطلة والأفعال الفاسدة .
ففى هذه الآية الكريمة تنويه بشأن إبراهيم ، وتعريض بأولئك الكافرين من أهل الكتاب الذين ادعوا أن إبراهيم كان يهودياً أو نصرانياً بأنهم هم المشركون بخلاف إبراهيم فقد كان مبرأ من ذلك .
أخرج الإمام مسلم والترمذى وأبو داود عن أنس رضى الله عنه قال : " جاء رجل إلى النبى صلى الله عليه وسلم فقال : يا خير البرية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ذاك إبراهيم عليه السلام " " .
حتى إذا انتهى السياق من إسقاط قيمة جدلهم من أساسه ، ونزع الثقة منهم ومما يقولون ، عاد يقرر الحقيقة التي يعلمها الله . فهو - سبحانه - الذي يعلم حقيقة هذا التاريخ البعيد ؛ وهو الذي يعلم كذلك حقيقة الدين الذي نزله على عبده إبراهيم . وقوله الفصل الذي لا يبقى معه لقائل قول ؛ إلا أن يجادل ويماري بلا سلطان ولا دليل :
( ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا . ولكن كان حنيفا مسلما . وما كان من المشركين )
فيؤكد ما قرره من قبل ضمنا من أن إبراهيم - عليه السلام - ما كان يهوديا ولا نصرانيا . وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده . ويقرر أنه كان مائلا عن كل ملة إلا الإسلام . فقد كان مسلما . . مسلما بالمعنى الشامل للإسلام الذي مر تفصيله وبيانه . .
وهذه الحقيقة متضمنة في قوله قبلها ( ولكن كان حنيفا مسلما ) . . ولكن إبرازها هنا يشير إلى عدة من لطائف الإشارة والتعبير :
يشير أولا إلى أن اليهود والنصارى - الذين انتهى أمرهم إلى تلك المعتقدات المنحرفة - مشركون . . ومن ثم لا يمكن أن يكون إبراهيم يهوديا ولا نصراينا . ولكن حنيفا مسلما !
ويشير إلى أن الإسلام شيء والشرك شيء آخر . فلا يلتقيان . الإسلام هو التوحيد المطلق بكل خصائصه ، وكل مقتضياته . ومن ثم لا يلتقي مع لون من الوان الشرك أصلا .
ويشير ثالثا إلى إبطال دعوى المشركين من قريش كذلك أنهم على دين إبراهيم ، وسدنة بيته في مكة . . فهو حنيف مسلم ، وهم مشركون . ( وما كان من المشركين ) !
ثم قال تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا } أي : مُتَحَنفًا عن الشرك قَصْدًا إلى الإيمان { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [ البقرة : 135 ]
وهذه الآية كالتي{[5159]} تقدمت في سورة البقرة : { وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا [ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ]{[5160]} } [ البقرة : 135 ] .
أخبر الله تعالى في هذه الآية ، عن حقيقة أمر إبراهيم ، فنفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان ، ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية ، وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة ، نفى نفس الملل وقرر الحالة الحسنة ، ثم نفى نفياً بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك ، وهذا كما تقول : ما أخذت لك مالاً بل حفظته ، وما كنت سارقاً ، فنفيت أقبح ما يكون في الأخذ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
هذا تكذيب من الله عزّ وجلّ دعوى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى، وادعوا أنه كان على ملتهم، وتبرئة لهم منه، وأنهم لدينه مخالفون، وقضاء منه عزّ وجلّ لأهل الإسلام، ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل دينه، وعلى منهاجه وشرائعه دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم. يقول الله عزّ وجلّ: {ما كانَ إبْرَاهِيمُ يَهُودِيّا وَلا نَصْرَانِيّا وَلَكِنْ كانَ حَنِيفا مُسْلِما وَما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ} الذين يعبدون الأصنام والأوثان، أو مخلوقا دون خالقه، الذي هو إلَه الخلق وبارئهم. {وَلَكِنْ كانَ حَنِيفا}: متبعا أمر الله وطاعته، مستقيما على محجة الهدى التي أمر بلزومها. {مُسْلِما}: خاشعا لله بقلبه، متذللاً له بجوارحه، مذعنا لما فرض عليه وألزمه من أحكامه.
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
فإن قيل: هل كان الله تعبد باليهودية والنصرانية ثم نسخا أم لا؟ قلنا: كان الذي بعثه الله به شرع موسى ثم شرع عيسى ثم نسخهما، فأما اليهودية والنصرانية فصفتا ذم، قد دل القرآن والإجماع على ذلك، لأن موسى لم يكن يهوديا، وعيسى لم يكن نصرانيا، لقوله تعالى: "إن الدين عند الله الاسلام "واليهودية ملة محرفة عن شرع موسى وكذلك النصرانية محرفة عن شرع عيسى...
وقيل في معنى الحنيف قولان: أحدهما -المستقيم الدين، لأن الحنف هو الاستقامة في اللغة...
والثاني- إن الحنيف هو المائل إلى الحق في الدين، فيكون مأخوذا من الحنف في القدم، وهو الميل...
فإن قيل: هل كان إبراهيم على جميع ما نحن عليه الآن من شرع الإسلام؟ قلنا. هو (ع) كان مسلما، وإن كان على بعض شريعتنا، لأن في شرعنا تلاوة الكتاب في صلاتنا وما أنزل القرآن إلا على نبينا، وإنما قلنا: إنه مسلم بإقامة بعض الشريعة، لأن أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله) كانوا مسلمين في الابتداء قبل استكمال الشرع. وقد سماه الله تعالى مسلما، فلا مرية تبقى بعد ذلك...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فنفى عنه اليهودية والنصرانية والإشراك الذي هو عبادة الأوثان، ودخل في ذلك الإشراك الذي تتضمنه اليهودية والنصرانية، وجاء ترتيب النفي على غاية الفصاحة، نفى نفس الملل وقرر الحالة الحسنة، ثم نفى نفياً بين به أن تلك الملل فيها هذا الفساد الذي هو الشرك...
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{ولكن كان حنيفاً مسلماً} ووقعت لكن هنا أحسن موقعها، إذ هي واقعة بين النقيضين بالنسبة إلى اعتقاد الحق والباطل... ولما كان الكلام مع اليهود والنصارى، كان الاستدراك بعد ذكر الانتفاء عن شريعتهما، ثم نفى على سبيل التكميل للتبري من سائر الأديان كونه من المشركين، وهم: عبدة الأصنام، كالعرب الذين كانوا يدعون أنهم على دين إبراهيم، وكالمجوس عبدة النار، وكالصابئة عبدة الكواكب، ولم ينص على تفصيلهم، لأن الإشراك يجمعهم...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما وبخهم على ذلك من جهلهم نفى سبحانه وتعالى عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام ما ادعاه عليه كل منهم طبق ما برهنت عليه الآية الأولى، ونفى عنه كل شرك أيضاً، وأثبت أنه كان مائلاً عن كل باطل منقاداً مع الدليل إلى كل حق بقوله سبحانه وتعالى: {ما كان إبراهيم يهودياً} أي كما ادعى اليهود {ولا نصرانياً} كما ادعى النصارى -لما تقدم من الدليل {ولكن كان حنيفاً مسلماً} وقد بين معنى الحنيف عند قوله تعالى: {قل بل ملة إبراهيم حنيفاً} [البقرة: 135] بما يصدق على المسلم، وقال الإمام العارف ولي الدين الملوي في كتابه حصن النفوس في السؤال في القبر: واليهودي أصله من آمن بموسى عليه الصلاة والسلام والتزم أحكام التوراة، والنصراني من آمن بعيسى عليه الصلاة والسلام والتزم أحكام الإنجيل، ثم صار اليهودي من كفر بما أنزل بعد موسى عليه الصلاة والسلام، والنصراني من كفر بما أنزل بعد عيسى عليه الصلاة والسلام، والحنيف المائل عن كل دين باطل، والمسلم المطيع لأوامر الله سبحانه وتعالى في أي كتاب أنزلت مع أي رسول أوردت، وإن شئت قلت: هو المنقاد لله سبحانه وتعالى وحده بقلبه ولسانه وجميع جوارحه المخلص عمله لله عزّ وجلّ، قال النبي صلى الله عليه وسلم لمن قال له: قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك "قل: آمنت بالله ثم استقم "انتهى.
ثم خص بالنفي من عرفوا بالشرك مع الصلاح لكل من داخله شرك من غيرهم كمن أشرك بعزير والمسيح عليهما الصلاة والسلام فقال: {وما كان من المشركين} وفي ذكر وصفي الإسلام والحنف تعريض لهم بأنهم في غاية العناد والجلافة واليبس في التمسك بالمألوفات وترك ما أتاهم من واضح الأدلة وقاطع الحجج البينات..
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
ثم بين تعالى ما يعلم من أمره فقال: {ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا}. أي مائلا عن كل ما كان عليه أهل عصره من الشرك والضلال: {مسلما} وجهه إلى الله تعالى وحده مخلصا له الدين والطاعة: {وما كان من المشركين} الذين يسمون أنفسهم الحنفاء ويدعون أنهم على ملة إبراهيم، وهم قريش ومن وافقهم من العرب. وهذا من الاحتراس فقد كان أهل الكتاب يدعون العرب بالحنفاء حتى صار الحنيف عندهم بمعنى الوثني المشرك. فلما وافقهم القرآن على إطلاق لفظ الحنيف على إبراهيم مستعملا له بالمعنى اللغوي احترس عما يوهمه الإطلاق من إرادة المعنى الاصطلاحي عندهم فصار معنى الآية أن إبراهيم المتفق على إجلاله وادعاء دينه عند أهل الملل الثلاث لم يكن على ملة أحد منهم بل كان مائلا عن مثل ما هم عليه من الوثنية والتقاليد، مسلما خالصا لله تعالى وليس المراد بكونه مسلما أنه كان على مثل ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الشريعة بالتفصيل وأنه يرد على هذا أن هذه الشريعة جاءت من بعده كما كانت التوراة والإنجيل من بعده، وإنما المراد إنه كان متحققا بمعنى الإسلام الذي يدل عليه لفظه وهو التوحيد والإخلاص لله في عمل الخير كما بينا ذلك بالتفصيل في تفسير {إن الدين عند الله الإسلام} [آل عمران: 19] وهذا المعنى لا يستطيع أهل الكتاب إنكاره. فإن ما في كتبهم عن إبراهيم لا يعدوه وما كان النبي يدعوهم إلا إليه. وقد نسي أكثر المسلمين اليوم معنى الإسلام الذي يقرره القرآن وجمدوا على المعنى الاصطلاحي له فجعلوه جنسية غافلين عن كونه هداية روحية. وما كان سلفهم الصالح كذلك..
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
حتى إذا انتهى السياق من إسقاط قيمة جدلهم من أساسه، ونزع الثقة منهم ومما يقولون، عاد يقرر الحقيقة التي يعلمها الله. فهو -سبحانه- الذي يعلم حقيقة هذا التاريخ البعيد؛ وهو الذي يعلم كذلك حقيقة الدين الذي نزله على عبده إبراهيم. وقوله الفصل الذي لا يبقى معه لقائل قول؛ إلا أن يجادل ويماري بلا سلطان ولا دليل:
(ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا. ولكن كان حنيفا مسلما. وما كان من المشركين)
فيؤكد ما قرره من قبل ضمنا من أن إبراهيم -عليه السلام- ما كان يهوديا ولا نصرانيا. وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده. ويقرر أنه كان مائلا عن كل ملة إلا الإسلام. فقد كان مسلما.. مسلما بالمعنى الشامل للإسلام الذي مر تفصيله وبيانه..
وهذه الحقيقة متضمنة في قوله قبلها (ولكن كان حنيفا مسلما).. ولكن إبرازها هنا يشير إلى عدة من لطائف الإشارة والتعبير:
يشير أولا إلى أن اليهود والنصارى -الذين انتهى أمرهم إلى تلك المعتقدات المنحرفة- مشركون.. ومن ثم لا يمكن أن يكون إبراهيم يهوديا ولا نصراينا. ولكن حنيفا مسلما!
ويشير إلى أن الإسلام شيء والشرك شيء آخر. فلا يلتقيان. الإسلام هو التوحيد المطلق بكل خصائصه، وكل مقتضياته. ومن ثم لا يلتقي مع لون من الوان الشرك أصلا.
ويشير ثالثا إلى إبطال دعوى المشركين من قريش كذلك أنهم على دين إبراهيم، وسدنة بيته في مكة.. فهو حنيف مسلم، وهم مشركون. (وما كان من المشركين)!
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
نتيجة للاستدلال إذ قد تحَصحَص من الحجّة الماضية أنّ اليهودية والنصرانية غير الحنيفية، وأنّ موسى وعيسى، عليهما السلام، لم يخبرا بأنهما على الحنيفية، فأنتج أنّ إبراهيم لم يكن على حال اليهودية أو النصرانية؛ إذ لم يؤْثَر ذلك عن موسى ولا عيسى، عليهما السلام، فهذا سنده خلوّ كتبهم عن ادّعاء ذلك. وكيف تكون اليهودية أو النصرانية من الحنيفية مع خلوّها عن فريضة الحج، وقد جاء الإسلام بذكر فرضه لمن تمكن منه، ومما يؤيد هذا ما ذكره ابن عطية في تفسير قوله تعالى في هذه السورة: {لا نفرّق بينَ أحد منهم ونحن له مسلمون} [البقرة: 136] عن عكرمة قال: « لما نزلت الآية قال أهل الملل: « قد أسلمنا قبلك، ونحن المسلمون» فقال الله له: فحُجهم يا محمد وأنزل الله: {وللَّه على الناس حجّ البيت} [آل عمران: 97] الآية فحجّ المسلمون وقَعد الكفار». ثمّ تمم الله ذلك بقوله: وما كان من المشركين، فأبطلت دعاوى الفرق الثلاث...
وقد تقدم في سورة البقرة [135] في مواضع أنّ إبراهيم سأل أن يكون مسلماً، وأنّ الله أمره أن يكون مسلماً، وأنه كان حنيفاً، وأنّ الإسلام الذي جاء به محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي كان جاء به إبراهيم {وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين} وكلّ ذلك لا يُبقي شكاً في أنّ الإسلام هو إسلام إبراهيم...
فقد جاء إبراهيم بالتوحيد، وأعلنه إعلاناً لم يَترك للشرك مسلكاً إلى نفوس الغافلين، وأقام هيكلاً وهو الكعبة، أول بيت وضع للناس، وفرض حَجّه على الناس: ارتباطاً بمغزاه، وأعلَن تمام العبودية لله تعالى بقوله: {ولا أخاف مَا تشركون به إلاّ أن يشاء ربّي شيئاً} [الأنعام: 80] وأخلص القول والعمل لله تعالى فقال: {وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم يُنزِّل به عليكم سلطاناً} [الأنعام: 81] وتَطَلّب الهُدى بقوله: {ربنا واجعلنا مسلمَيْنِ لك} [البقرة: 128] {وأرنا مناسكنا وتُب علينا} [البقرة: 128] وكسر الأصنام بيده {فجعلهم جذاذاً} [الأنبياء: 58]، وأظهر الانقطاع لله بقوله: {الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين} [الشعراء: 78 81]، وتصَدّى للاحتجاج على الوحدانية وصفات الله {قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب} [البقرة: 258] {وتلك حجتنا ءاتيناها إبراهيم على قومه} [الأنعام: 83] {وحاجهُ قومه} [الأنعام: 80]...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
ووصفه عليه السلام بأنه حنيف يطلب الحق مستقيما في طلبه فيه بيان منافاة أخلاق اليهود والنصارى لأخلاقه وهديه،فهم لا يطلبون الحق لذات الحق،ولكن يطلبون هوى انفسهم،فإن يكن الحق لهم يأتوا عليه مذعنين،وإن يكن الحق عليهم أعرضوا عنه وذلك لمرض قلوبهم...
والوصف الثاني من أوصاف إبراهيم خليل الله انه مسلم،والإسلام هو الإخلاص لذات الله، والمحبة والانصراف إليه سبحانه وتعالى،حتى لا يعمر القلب بغير نوره،وهذا أيضا وصف مناف لما كان عليه اليهود والنصارى،فإلههم هواهم،ومحبتهم لنفسهم لا لله،وإنما هي أعراض الدنيا أركست نفوسهم،وأغلقت دون نور الله قلوبهم...
وبذلك يتأكد أن إبراهيم عليه السلام لم يكن يهوديا، لأن اليهودية جاءت من بعده. ولم يكن إبراهيم نصرانيا، لأن النصرانية جاءت من بعده، لكنه وهو خليل الرحمن {كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} ونحن نفهم أن كلمة {حَنِيفاً} تعني الدين الصافي القادم من الله، والكلمة مأخوذة من المحسات، فالحنف هو ميل في الساقين من أسفل، أي اعوجاج في الرجلين، ثم نقل الحنف إلى كل أمر غير مستوٍ. وهنا يتساءل الإنسان، هل كان إبراهيم عليه السلام في العوج أو في الاستقامة؟ وكيف يكون حنيفا، والحنف عوج؟ وهنا نقول: إن إبراهيم عليه السلام كان على الاستقامة، ولكنه جاء على وثنية واعوجاج طاغ فالعالم كان معوجا. وجاء إبراهيم ليخرج عن هذا العوج، وما دام منحرفا عن العوج فهو مستقيم، لماذا؟ لأن الرسل لا يأتون إلا على فساد عقدي وتشريعي طاغ...
إذن فإبراهيم عليه السلام جاء حنيفا، أي مائلا عن المائل، وما دام مائلا عن المائل فهو مستقيم، فالحنيفية السمحة هي الاستقامة...
وكلمة {مُّسْلِماً} تقتضي "مسلما إليه "وهو الله، أي أنه أسلم زمامه إلى الله، ومُسْلَماً فيه وهو الإيمان بالمنهج. وعندما أسلم إبراهيم زمامه إلى الله فقد اسلم في كل ما ورد ب "افعل ولا تفعل" وإذا ما طبقنا هذا الاشتقاق على موكب الأنبياء والرسل فسنجد أن آدم عليه السلام كان مسلما، ونوحا عليه السلام كان مسلما، وكل الأنبياء الذين سبقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا مسلمين. كان كل نبي ورسول من موكب الرسل يلقى زمامه في كل شيء إلى مسْلَم إليه؛ وهو الله، ويطبق المنهج الذي نزل إليه، وبذلك كان الإسلام وصفا لكل الأنبياء والمؤمنين بكتب سابقة، إلى أن نزل المنهج الكامل الذي اختتمت به رسالة السماء على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ب "افعل ولا تفعل" ولم يعد هناك أمر جديد يأتي، ولن يشرع أحد إسلاما لله غير ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. لقد اكتملت الغاية من الإسلام، ونزل المنهج بتمامه من الله. واستقر الإسلام كعقيدة مصفاة، وصار الإسلام علما على الأمة المسلمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهي التي لا يُستدرك عليها لأنها أمة أسلمت لله في كل ما ورد ونزل على محمد صلى الله عليه وسلم. لذلك قال الحق: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ}...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
(ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً).
وهذا ردّ صريح على هذه المزاعم يقول إنّ إبراهيم لم يكن من اليهود ولا من المسيحيّين، وإنّما كان موحّداً طاهراً مخلصاً أسلم لله ولم يشرك به أبداً.
«الحنيف» من الحنف، وهو الميل من شيء إلى شيء، وهو في لغة القرآن ميل عن الضلال إلى الاستقامة.
يصف القرآن إبراهيم أنّه كان حنيفاً لأنّه شقّ حجب التعصّب والتقليد الأعمى، وفي عصر كان غارقاً في عبادة الأصنام، نبذ هو عبادة الأصنام ولم يطأطئ لها رأساً.
إلاَّ أنّ العرب الذين كانوا يعبدون الأصنام في العصر الجاهلي كانوا يعتبرون أنفسهم حنفاء على دين إبراهيم. وقد شاع هذا شيوعاً حدا بأهل الكتاب إلى أن يطلقوا عليهم اسم «الحنفاء». وبهذا اتّخذت لفظة «الحنيف» معنىً معاكساً تماماً لمعناها الأصلي، غدت ترادف عبادة الأصنام. لذلك فإنّ القرآن بعد أن وصف إبراهيم بأنّه كان (حنيفاً) أضاف (مسلماً) ثمّ أردف ذلك بقوله (وما كان من المشركين) لإبعاد احتمال آخر.
قد يسأل سائل: إذا لم نكن نعتبر إبراهيم من أتباع موسى ولا من أتباع عيسى فنحن بطريق أولى لا نستطيع أن نعتبره مسلماً أيضاً، لأنّه كان قبل كلّ هذه الأديان. فكيف يصفه القرآن بأنّه كان مسلماً؟
جواب هذا السؤال هو أنّ «الإسلام» في القرآن لا يعني اتّباع رسول الإسلام فقط، بل الكلمة بالمعنى الأوسع تعني التسليم المطلق لأمر الله للتوحيد الكامل الخالص من كلّ شرك ووثنية، وكان إبراهيم حامل لواء ذلك الإسلام.
وممّا تقدّم يتّضح أن إبراهيم (عليه السلام) لم يكن تابعاً لهذه الأديان. ولكن يبقى شيء واحد، وهو من هم الذين يحقّ لهم ادعاء العلاقة والارتباط بالدين الإبراهيمي وبعبارة أخرى كيف يمكننا اتباع هذا النبي العظيم الذي يفتخر باتّباعه جميع أتباع الأديان السماوية؟