ثم بين ذلك مفصلاً فقال : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين } كما لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، أو عرض بالمشركين عن اليهود والنصارى لإشراكهم بالله عزيراً والمسيح . فإن قيل : قولكم " إبراهيم على دين الإسلام " إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصاً بدين الإسلام ، وإن أردتم به الموافقة في الفروع لزم أن لا يكون محمد صاحب شريعة بل كان مقرراً لشرع من قبله . قلنا : نختار الأول والاختصاص ثابت . فإن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزير والمسيح بالله إلى غير ذلك من قبائح أفعالهم ، أو الثاني ولا يلزم ما ذكرتم لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى ، ثم في زمان محمد نسخ شرع موسى بتلك الشريعة التي كانت ثابتة في زمان إبراهيم ، فيكون محمد صاحب الشريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع .
روى الواحدي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان ، اجتمعت قريش من دار الندوة وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثأراً بمن قتل منكم ببدر . فأجمعوا مالاً وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم . فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط مع هدايا الأدم وغيره ، فركبا البحر وأتيا الحبشة . فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له : إن قومنا لك ناصحون شاكرون وإصلاحك محبون ، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء القوم الذين قدروا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء . وإنا كنا ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل أحد منا عليهم ولا يخرج منهم أحد ، قد قتلهم الجوع والعطش . فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك ، وقد جئتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم . قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك . قال : فدعاهم النجاشي . فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله . فقال النجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر . فقال النجاشي : نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته . فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال : ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك . ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص : ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك ؟ فقال لهم النجاشي : ما يمنعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحيي بها من أتاني من الآفاق ؟ قالوا : نسجد لله الذي خلقك وملكك ، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان ، فبعث الله فينا نبياً صادقاً وأمرنا بالتحية التي رضيها الله لنا وهي " السلام " تحية أهل الجنة . فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل . قال : أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله ؟ قال جعفر : أنا . قال : فتكلم . قال : إنك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ، ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم ، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي .
فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا . فقال عمرو لجعفر : تكلم . فقال جعفر للنجاشي : سل هذا الرجل أعبيد نحن أم أحرار ؟ فإن كنا عبيداً أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم . فقال النجاشي : أعبيد هم أم أحرار ؟ فقال : بل أحرار كرام . فقال النجاشي : نجوا من العبودية . قال جعفر للنجاشي : سلهما هل أهرقنا دماً بغير حق فيقتص منا ؟ فقال عمرو : لا ولا قطرة . قال جعفر : سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها ؟ قال النجاشي : يا عمرو إن كان قنطاراً فعليّ قضاؤه . فقال عمرو : لا ولا قيراط . قال النجاشي : فما تطلبون منهم ؟ قال عمرو : كنا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا ، فتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره ولزمناه نحن ، فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا . فقال النجاشي : ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه أصدقني . قال جعفر : أما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره . كنا نكفر بالله عزّ وجلّ ونعبد الحجارة . وأما الدين الذي تحولنا إليه فدين الإسلام ، جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقاً له . فقال النجاشي : يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك . ثم أمر النجاشي فضرب الناقوس فاجتمع إليه كل قسيس وراهب . فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي : أنشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبياً مرسلاً ؟ فقالوا : اللهم نعم ، قد بشرنا به عيسى وقال : من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي . فقال النجاشي لجعفر : ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه ؟ قال : يقرأ علينا كتاب الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له . فقال : اقرأ علي شيئاً مما يقرأ عليكم . فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت أعين النجاشي وأصحابه من الدموع وقالوا : يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطيب . فقرأ عليهم سورة الكهف . فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال : إنهم يشتمون عيسى وأمه . فقال النجاشي : ما تقولون في عيسى وأمه ؟ فقرأ عليهم جعفر سورة مريم . فلما أتى ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين وقال : والله ما زاد المسيح على ما يقولون هذا . ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال : اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي يقول آمنون من سبكم أو أذاكم . قال : أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة أي لا خوف اليوم على حزب إبراهيم . قال عمرو : يا نجاشي ومن حزب إبراهيم ؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم . فأنكر ذلك المشركون وادعوا أنهم في دين إبراهيم .
ثم رد النجاشي على عمرو وأصحابه المال الذي حملوه وقال : إنما هديتكم إليّ رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة . قال جعفر : وانصرفنا فكنا في خير دار وأكرم جوار .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.