غرائب القرآن ورغائب الفرقان للحسن بن محمد النيسابوري - النيسابوري- الحسن بن محمد  
{مَا كَانَ إِبۡرَٰهِيمُ يَهُودِيّٗا وَلَا نَصۡرَانِيّٗا وَلَٰكِن كَانَ حَنِيفٗا مُّسۡلِمٗا وَمَا كَانَ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ} (67)

61

ثم بين ذلك مفصلاً فقال : { ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين } كما لم يكن يهودياً ولا نصرانياً ، أو عرض بالمشركين عن اليهود والنصارى لإشراكهم بالله عزيراً والمسيح . فإن قيل : قولكم " إبراهيم على دين الإسلام " إن أردتم به الموافقة في الأصول فليس هذا مختصاً بدين الإسلام ، وإن أردتم به الموافقة في الفروع لزم أن لا يكون محمد صاحب شريعة بل كان مقرراً لشرع من قبله . قلنا : نختار الأول والاختصاص ثابت . فإن اليهود والنصارى مخالفون للأصول في زماننا لقولهم بالتثليث وإشراك عزير والمسيح بالله إلى غير ذلك من قبائح أفعالهم ، أو الثاني ولا يلزم ما ذكرتم لجواز أنه تعالى نسخ تلك الفروع بشرع موسى ، ثم في زمان محمد نسخ شرع موسى بتلك الشريعة التي كانت ثابتة في زمان إبراهيم ، فيكون محمد صاحب الشريعة مع موافقة شرعه شرع إبراهيم في معظم الفروع .

روى الواحدي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : لما هاجر جعفر بن أبي طالب وأصحابه إلى الحبشة واستقرت بهم الدار وهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان من أمر بدر ما كان ، اجتمعت قريش من دار الندوة وقالوا : إن لنا في الذين عند النجاشي من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثأراً بمن قتل منكم ببدر . فأجمعوا مالاً وأهدوه إلى النجاشي لعله يدفع إليكم من عنده من قومكم ، ولينتدب لذلك رجلان من ذوي آرائكم . فبعثوا عمرو بن العاص وعمارة بن أبي معيط مع هدايا الأدم وغيره ، فركبا البحر وأتيا الحبشة . فلما دخلا على النجاشي سجدا له وسلما عليه وقالا له : إن قومنا لك ناصحون شاكرون وإصلاحك محبون ، وإنهم بعثونا إليك لنحذرك هؤلاء القوم الذين قدروا عليك لأنهم قوم رجل كذاب خرج فينا يزعم أنه رسول الله ولم يتابعه أحد منا إلا السفهاء . وإنا كنا ضيقنا عليهم الأمر وألجأناهم إلى شعب بأرضنا لا يدخل أحد منا عليهم ولا يخرج منهم أحد ، قد قتلهم الجوع والعطش . فلما اشتد عليهم الأمر بعث إليك ابن عمه ليفسد عليك دينك وملكك ورعيتك ، وقد جئتك فاحذرهم وادفعهم إلينا لنكفيكهم . قالوا : وآية ذلك أنهم إذا دخلوا عليك لا يسجدون لك ولا يحيونك بالتحية التي يحييك بها الناس رغبة عن دينك وسنتك . قال : فدعاهم النجاشي . فلما حضروا صاح جعفر بالباب يستأذن عليك حزب الله . فقال النجاشي : مروا هذا الصائح فليعد كلامه ففعل جعفر . فقال النجاشي : نعم فليدخلوا بأمان الله وذمته . فنظر عمرو بن العاص إلى صاحبه فقال : ألا تسمع كيف يرطنون بحزب الله وما أجابهم به النجاشي فساءهما ذلك . ثم دخلوا عليه ولم يسجدوا له فقال عمرو بن العاص : ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك ؟ فقال لهم النجاشي : ما يمنعكم أن تسجدوا لي وتحيوني بالتحية التي يحيي بها من أتاني من الآفاق ؟ قالوا : نسجد لله الذي خلقك وملكك ، وإنما كانت تلك التحية لنا ونحن نعبد الأوثان ، فبعث الله فينا نبياً صادقاً وأمرنا بالتحية التي رضيها الله لنا وهي " السلام " تحية أهل الجنة . فعرف النجاشي أن ذلك حق وأنه في التوراة والإنجيل . قال : أيكم الهاتف يستأذن عليك حزب الله ؟ قال جعفر : أنا . قال : فتكلم . قال : إنك ملك من ملوك أهل الأرض ومن أهل الكتاب ، ولا يصلح عندك كثرة الكلام ولا الظلم ، وأنا أحب أن أجيب عن أصحابي .

فمر هذين الرجلين فليتكلم أحدهما ولينصت الآخر فتسمع محاورتنا . فقال عمرو لجعفر : تكلم . فقال جعفر للنجاشي : سل هذا الرجل أعبيد نحن أم أحرار ؟ فإن كنا عبيداً أبقنا من أربابنا فارددنا إليهم . فقال النجاشي : أعبيد هم أم أحرار ؟ فقال : بل أحرار كرام . فقال النجاشي : نجوا من العبودية . قال جعفر للنجاشي : سلهما هل أهرقنا دماً بغير حق فيقتص منا ؟ فقال عمرو : لا ولا قطرة . قال جعفر : سلهما هل أخذنا أموال الناس بغير حق فعلينا قضاؤها ؟ قال النجاشي : يا عمرو إن كان قنطاراً فعليّ قضاؤه . فقال عمرو : لا ولا قيراط . قال النجاشي : فما تطلبون منهم ؟ قال عمرو : كنا وهم على دين واحد وأمر واحد على دين آبائنا ، فتركوا ذلك الدين واتبعوا غيره ولزمناه نحن ، فبعثنا إليك قومهم لتدفعهم إلينا . فقال النجاشي : ما هذا الدين الذي كنتم عليه والدين الذي اتبعوه أصدقني . قال جعفر : أما الدين الذي كنا عليه فتركناه فهو دين الشيطان وأمره . كنا نكفر بالله عزّ وجلّ ونعبد الحجارة . وأما الدين الذي تحولنا إليه فدين الإسلام ، جاءنا به من الله رسول وكتاب مثل كتاب ابن مريم موافقاً له . فقال النجاشي : يا جعفر تكلمت بأمر عظيم فعلى رسلك . ثم أمر النجاشي فضرب الناقوس فاجتمع إليه كل قسيس وراهب . فلما اجتمعوا عنده قال النجاشي : أنشدكم بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى ، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبياً مرسلاً ؟ فقالوا : اللهم نعم ، قد بشرنا به عيسى وقال : من آمن به فقد آمن بي ومن كفر به فقد كفر بي . فقال النجاشي لجعفر : ماذا يقول لكم هذا الرجل وما يأمركم به وما ينهاكم عنه ؟ قال : يقرأ علينا كتاب الله ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويأمر بحسن الجوار وصلة الرحم وبر اليتيم ، ويأمرنا أن نعبد الله وحده لا شريك له . فقال : اقرأ علي شيئاً مما يقرأ عليكم . فقرأ عليهم سورة العنكبوت والروم ففاضت أعين النجاشي وأصحابه من الدموع وقالوا : يا جعفر زدنا من هذا الحديث الطيب . فقرأ عليهم سورة الكهف . فأراد عمرو أن يغضب النجاشي فقال : إنهم يشتمون عيسى وأمه . فقال النجاشي : ما تقولون في عيسى وأمه ؟ فقرأ عليهم جعفر سورة مريم . فلما أتى ذكر مريم وعيسى رفع النجاشي نفثة من سواكه قدر ما يقذي العين وقال : والله ما زاد المسيح على ما يقولون هذا . ثم أقبل على جعفر وأصحابه فقال : اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي يقول آمنون من سبكم أو أذاكم . قال : أبشروا ولا تخافوا فلا دهورة أي لا خوف اليوم على حزب إبراهيم . قال عمرو : يا نجاشي ومن حزب إبراهيم ؟ قال : هؤلاء الرهط وصاحبهم الذي جاءوا من عنده ومن اتبعهم . فأنكر ذلك المشركون وادعوا أنهم في دين إبراهيم .

ثم رد النجاشي على عمرو وأصحابه المال الذي حملوه وقال : إنما هديتكم إليّ رشوة فاقبضوها فإن الله ملكني ولم يأخذ مني رشوة . قال جعفر : وانصرفنا فكنا في خير دار وأكرم جوار .