فقال : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً } فكذَّبهم فيما ادَّعَوْه - من موافقته لهما - بَدْأً باليهود ؛ لأن شريعتهم أقدم وكرر " لا " - في قوله : { وَلاَ نَصْرَانِيّاً } - توكيداً ، وبياناً أنه كان منفيًّا عن كل واحد من الدينين على حدته .
قال القرطبيُّ : " دلَّت الآيةُ على المنع من جدال مَنْ لا علم له ، وقد ورد الأمر بالجدال لمن علم وأتقن ، قال تعالى : { وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه أتاه رجل وولده ، فقال : يا رسولَ الله ، إنَّ امرأتي وَلَدَتْ غُلاماً أسْوَدَ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ ؟ قال : نَعَمْ ، قَالَ : فَمَا ألْوَانُهَا ؟ قال : حُمْرٌ ، قال : فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَال : مِنْ أيْنَ أتَاهَا ذَلِكَ ؟ قَالَ : لَعَلَّ عِرْقاً نزَعَه ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : وَهَذَا الغَلامُ لَعَلَّ عِرْقاً نَزَعَهُ " {[5582]} .
وهذه حقيقة الجدال ، والنهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صلى الله عليه وسلم " .
قوله : { وَلَكِن } استدراك لما كان عليه ، ووقعت - هنا - أحسن موقع ؛ إذْ هي بين نَقِيضَيْن بالنسبة إلى اعتقادِ الحقِّ والباطلِ .
ولما كان الخطاب مع اليهود والنصارَى أتى بجُمْلة تنفي أخْرَى ؛ ليدل على أنه لم يكن على دين أحد من المشركين ، كالعرب عَبَدَةِ الأوثان ، والمجوس عَبَدَةِ النار ، والصابئةِ عَبَدَةِ الكواكبِ .
بهذا يطرحُ سؤالُ مَنْ قال : أيُّ فائدةٍ في قوله : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } بعد قوله : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً } ؟ وأتى بخبر " كان " مجموعاً ، فقال : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } بكونه فاصلةً ، ولولا مراعاة ذلك لكانَتِ المطابقةُ مطلوبةً بينه وبين ما استدرك عنه في قوله : { يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً } فيتناسب النفيان .
وقيل : قوله : { وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } تعريض بكَوْن النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح ، وكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه .
والحنيفُ : المائل عن الأديان كلِّها إلى الدّينِ المُسْتَقِيمِ .
وقيل : الحنيفُ : الذي يُوَحِّد ، ويَحُد ، ويُضَحِّي ، ويَخْتَتِنُ ، ويَسْتَقِبِل القبلة{[5583]} . وتقدم الكلام عليه في البقرة .
فإن قيل : قولكم : إبراهيم على دين الإسلام ، أتريدون به الموافقة في الأصول ، أو في الفروع ؟
فإن كان الأول لم يكن هذا مختصًّا بدين الإسلام ، بل نقطع بأنّ إبراهيمَ أيضاً على دين اليهود - [ ذلك الدينَ الذي جاء به موسى - وكان أيضاً - نصرانياً ] {[5584]} أعني تلك النصرانية التي جاء بها عيسى - فإنَّ أديانَ الأنبياء كلَّها لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول ، وإن أردتم به الموافقةَ في الفروع لزم أن لا يكون محمد صلى الله عليه وسلم صاحب شرع البتة ، بل كان مقرِّراً لدين غيره ، وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة أن التعبُّد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ ، وتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا ، وغير مشروعة في صلاتهم .
فالجوابُ : أنه يجوز أن يكون المراد به الموافقة في الأصولِ والغرض منه بيانُ أنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هُمُ اليهود والنصارى في زماننا هذا .
ويجوز أن يقالَ : المراد به الموافقة في الفروع ، وذلك لأن اللهَ نسخ تلك الشرائعَ بشرع موسى ، ثم زمان محمد صلى الله عليه وسلم نسخ شرع موسى بتلك الشرائع التي كانت ثابتةً في زمان إبراهيم عليه السلامُ - وعلى هذا التقدير يكون - عليه السلامُ - صاحب الشريعة ، ثم لمَّا كان غالب شرع محمد صلى الله عليه وسلم موافقاً لشرع إبراهيم ، جاز إطلاق الموافقة عليه ، ولو وقعت المخالفةُ في القليل لم يقدَحْ ذلك في حصول الموافقة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.