ثم وصف ظلمهم فقال : { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } فصدوا بأنفسهم عن سبيل الله ، وهي سبيل الرسل ، التي دعوا الناس إليها ، وصدوا غيرهم عنها ، فصاروا أئمة يدعون إلى النار .
{ وَيَبْغُونَهَا } أي : سبيل الله { عِوَجًا } أي : يجتهدون في ميلها ، وتشيينها ، وتهجينها ، لتصير عند الناس غير مستقيمة ، فيحسنون الباطل ويقبحون الحق ، قبحهم الله { وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ }
ثم بين - سبحانه - جانبا آخر من أفعالهم الشنيعة فقال : { الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً . . . }
و { يَصُدُّونَ } من صد بمعنى صرف الغير عن الشئ ومنعه منه . يقال صد يصد صدودا وصدا .
و { سَبِيلِ الله } طريقة الموصولة إلى رضائه ، والمراد بها ملة الإِسلام .
{ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أى يطلبون لها العوج ، يقال : بغيت لفلان كذا إذا طلبته له .
والعوج - بكسر العين - الميل والزيغ فى الدين والقول والعمل . وكل ما خرج عن طريق الهدى إلى طريق الضلال فهو عوج .
والعوج - بفتح العين - يكون فى المحسوسات كالميل فى الحائط والرمح وما يشبههما . أى أن مكسور العين يكون فى المعانى ومفتوحها يكون فى المحس .
والمعنى : ألا لعنة الله وخزيه على الظالمين الذين من صفاتهم أنهم لا يكتفون بانصرافهم عن الحق بل يحاوولن صرف غيرهم عنه ويطلبون لملة الإِسلام العوج ويصفونها بذلك تنفيرا للناس منها ، وقوله عوجا مفعول ثان ليبغون ، أو حال من سبيل الله .
وقوله { وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ } بيان لعقيدتهم الباطلة فى شأن البعث والحساب . أى : وهم بالآخرة وما فيها من حساب وثواب وعقاب كافرون .
وكرر الضمير { هم } لتأكيد كفرهم وللإِشارة إلى أنهم بلغوا فيه مبلغا لم يبلغه أحد سواهم حتى لكأن كفر غيرهم يسير بالنسبة لكفرهم .
وهم الذين يفترون الكذب على ربهم ليصدوا عن سبيل الله .
فلا يريدون الاستقامة ولا الخطة المستقيمة ، إنما يريدونها عوجا والتواء وانحرافا . يريدون الطريق أو يريدون الحياة أويريدون الأمور . . كلها بمعنى . . ( وهم بالآخرة هم كافرون ) ويكرر( هم ) مرتين للتوكيد وتثبيت الجريمة وإبرازها في مقام التشهير .
والذين يشركون بالله - سبحانه - وهم الظالمون - إنما يريدون الحياة كلها عوجا حين يعدلون عن استقامة الإسلام . وما تنتج الدينونة لغير الله - سبحانه - إلا العوج في كل جانب من جوانب النفس ، وفي كل جانب من جوانب الحياة .
إن عبودية الناس لغير الله سبحانه تنشئ في نفوسهم الذلة وقد أراد الله أن يقيمها على الكرامة . وتنشئ في الحياة الظلم والبغي وقد أراد الله أن يقيمها على القسط والعدل . وتحول جهود الناس إلى عبث في تأليه الأرباب الأرضية والطبل حولها والزمر ، والنفخ فيها دائما لتكبر حتى تملأ مكان الرب الحقيقي . ولما كانت هذه الأرباب في ذاتها صغيرة هزيلة لا يمكن أن تملأ فراغ الرب الحقيقي ، فإن عبادها المساكين يظلون في نصب دائب ، وهم مقعد مقيم ينفخون فيها ليل نهار ، ويسلطون عليها الأضواء والأنظار ، ويضربون حولها بالدفوف والمزامير والترانيم والتسابيح ، حتى يستحيل الجهد البشري كله من الإنتاج المثمر للحياة إلى هذا الكد البائس النكد وإلى هذا الهم المقعد المقيم . . فهل وراء ذلك عوج وهل وراء ذلك التواء ؟ !
وقوله : { الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي يردُّون الناسَ عن اتباع الحق وسلوك طريق{[14544]} الهدى الموصلة إلى الله عز وجل ويجنبونهم{[14545]} الجنة ، { وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا } أي : ويريدون أن يكون طريقهم{[14546]} عوجا غير معتدلة ، { وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } أي : جاحدون بها مكذبون بوقوعها وكونها .
قوله : { الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً وهم بالآخرة هم كافرون } تقدم نظيره في سورة [ الأعراف : 45 ] .
وضمير المؤنث في قوله : ( يبغونها ) عائد إلى سبيل الله لأنّ السبيل يجوز اعتباره مؤنثاً .
والمعنى : أنهم يبغون أن تصير سبيل الله عَوجاء ، فعلم أن سبيل الله مستقيمة وأنهم يحاولون أن يصيروها عَوجاء لأنهم يريدون أن يتبع النبي صلى الله عليه وسلم دينهم ويغضبون من مخالفته إياه . وهنا انتهى كلام الأشهاد لأن نظيره الذي في سورة [ الأعراف : 44 ] في قوله : { فأذّن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين } الآية انتهى بما يماثل آخر هذه الآية .
واختصت هذه الآية على نظيرها في الأعراف بزيادة ( هم ) في قوله : { هم كافرون } وهو توكيد يفيد تقوّي الحكم لأن المقام هنا مقام تسجيل إنكارهم البعث وتقريرِه إشعاراً بما يترقبهم من العقاب المناسب فحكي به من كلام الأشهاد ما يناسب هذا ، وما في سورة الأعراف حكاية لما قيل في شأن قوم أُدخلوا النار وظهر عقابهم فلا غَرض لحكاية ما فيه تأكيد من كلام الأشهاد ، وكلا المقالتين واقع وإنما يحكي البليغ فيما يحكيه ما له مناسبة لمقام الحكاية .