قوله تعالى : { قال فالحق والحق أقول } قرأ عاصم و حمزة و يعقوب : { فالحق } برفع القاف على الابتداء ، وخبره محذوف تقديره : الحق مني ، ونصب الثانية أي : وأنا أقول الحق ، قاله مجاهد ، وقرأ الآخرون بنصبهما ، واختلفوا في وجههما ، قيل : نصب الأولى على الإغراء كأنه قال : الزم الحق ، والثاني بإيقاع القول عليه أي : أقول الحق . وقيل : الأول قسم ، أي ، فبالحق وهو الله عز وجل ، فانتصب بنزع الخافض ، وهو حرف الصفة ، وانتصاب الثاني بإيقاع القول عليه . وقيل : الثاني تكرار القسم ، أقسم الله بنفسه .
قوله : { فالحق } مبتدأ محذوف الخبر أى : فالحق قسمى لأملأن . . وقوله : { والحق أَقُولُ } لفظ الحق منصوب هنا على أنه مفعول لأقول ، قدم عليه لإِفادة الحصر .
والجملة من الفاعل والمفعول معترضة بين القسم والقسم عليه لتقرير مضمون الجملة القسمية . أى : قال الله - تعالى - فى رده على إبليس : فالحق قسمى ويمينى - ولا أقول إلا الحق - لأملأن جهنم من جنسك يا إبليس ، وممن تبعك من الناس جميعا ، لأن هذا جزاء من عصانى .
( قال : فالحق . والحق أقول . لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) . .
والله يقول الحق دائماً . والقرآن يقرر هذا ويؤكد الإشارة إليه في هذه السورة في شتى صوره ومناسباته . فالخصم الذين تسوروا المحراب على داود يقولون له : ( فاحكم بيننا بالحق ولا تشطط ) . . والله ينادي عبده داود : ( فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ) . . ثم يعقب على هذا بالإشارة إلى الحق الكامن في خلق السماوات والأرض : ( وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلاً . ذلك ظن الذين كفروا ) . . ثم يجيء ذكر الحق على لسان القوي العزيز : ( قال فالحق والحق أقول ) . . فهو الحق الذي تتعدد مواضعه وصوره ، وتتحد طبيعته وكنهه . ومنه هذا الوعد الصادق :
( لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين ) . .
وهي المعركة إذن بين الشيطان وأبناء آدم ، يخوضونها على علم . والعاقبة مكشوفة لهم في وعد الله الصادق الواضح المبين . وعليهم تبعة ما يختارون لأنفسهم بعد هذا البيان . وقد شاءت رحمة الله ألا يدعهم جاهلين ولا غافلين . فأرسل إليهم المنذرين .
وقوله : { قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ } قرأ ذلك جماعة منهم مجاهد برفع " الحق " الأولى وفسره مجاهد بأن معناه : أنا الحق ، والحق أقول وفي رواية عنه : الحق مني ، وأقول الحق . وقرأ آخرون بنصبهما . قال السدي : هو قسم أقسم الله به . قلت : وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : { وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] وكقوله تعالى : { قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا } [ الإسراء : 63 ] .
والقائل : { فالحق } هو الله تعالى قال مجاهد : المعنى فالحق أنا .
وقرأ جمهور القراء : «فالحقَّ والحقَّ » بنصب الاثنين ، فأما الثاني فمنصوب ب { أقول } ، وأما الأول فيحتمل أن ينتصب على الإغراء ، ويحتمل أن ينتصب على القسم على إسقاط حرف القسم ، كأنه قال : فوالحق ، ثم حذف الحرف كما تقول : الله لأفعلن ، تريد : والله ، ويقوي ذلك قوله : { لأملأن } ، وقد قال سيبويه : قلت للخليل ما معنى لأفعلن إذا جاءت مبتدأة : قال هي بتقدير قسم منوي : وقالت فرقة : «الحق » الأول منصوب بفعل مضمر . وقال ابن عباس ومجاهد : «فالحقُّ والحقُّ » برفع الاثنين ، فأما الأول فرفع بالابتداء وخبره في قوله : { لأملأن } ، لأن المعنى : أن أملأ ، وأما الثاني فيرتفع على ابتداء أيضاً . وقرأ عاصم وحمزة : «فالحقُّ » بالرفع «والحقَّ » بالنصب ، وهي قراءة مجاهد والأعمش وأبان بن تغلب وإعراب هذه بين . وقرأ الحسن : «فالحقِّ والحقِّ » بخفض القاف فيهما على القسم ، وذكرها أبو عمرو الداني .
أي قال الله تعالى تفريعاً ، وهذا التفريع نظير التفريع في قوله : { فبعزَّتِكَ لأُغوينهم أجمعينَ } [ ص : 82 ] .
وقوبل تأكيد عزمه الذي دل عليه قولُه { فبعزتك } [ ص : 82 ] بتأكيدٍ مثله ، وهو لفظ { الحقَّ } الدال على أن ما بعده حق ثابت لا يتخلف ، ولم يزد في تأكيد الخبر على لفظ { الحق } تذكيراً بأن وعد الله تعالى حق لا يحتاج إلى قَسَم عليه ترفعاً من جلال الله عن أن يقابل كلام الشيطان بقَسَم مثله . ولذلك زاد هذا المعنى تقريراً بالجملة المعترضة وهي { والحقّ أقول } الذي هو بمعنى : لا أقول إلا الحق ، ولا حاجة إلى القَسَم .
وقرأ الجمهور : { فالحقّ } بالنصب وانتصابه على المفعولية المطلقة بدلاً عن فعل من لفظه محذوففٍ تقديره : أُحقّ ، أي أُوْجب وأحقّق . وأصله التنكير ، فتعريفه باللام تعريف الجنس كالتعريف في : أرسلَها العِراك ، فهو في حكم النكرة وإنما تعريفه حِلية لفظية إشارة إلى ما يعرفه السامع من أن الحق ما هو وتقدم بيانه في أول الفاتحة .
وقرأه عاصم وحمزة بالرفع على أنه لمَّا تعرف باللام غلبت عليه الاسمية فتنوسي كونه نائباً عن الفعل . وهذا الرفع إما على الابتداء ، أي فالحق قولي ، أو فالحق لأملأنّ جهنم الخ ، على أن تكون جملة القَسَم قائمة مقام الخبر ، وإمّا على الخبرية ، أي فقولي الحقّ وتكون جملة { لأملأنَّ جهنَّمَ } مُفسر القول المحذوف ، ولا خلاف في نصب الحق من قوله : { والحق أقول . } وتقدم تفصيل ذلك في أول سورة الفاتحة .