اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{قَالَ فَٱلۡحَقُّ وَٱلۡحَقَّ أَقُولُ} (84)

قوله : { فالحق والحق } قرأهما العامة منصوبين ، وفي نصب الأول أوجه :

أحدها : أنه مقسم به حذف منه حرف القسم فانتصب كقوله :

فَذَاكَ أَمَانَةَ اللَّهِ الثَّرِيدُ*** . . . . . . . . . . . . . . .

وقوله : لأَمْلأَن جَهَنَّمَ جواب القسم ، قال أبو البقاء : إِلاَّ أَنَّ سِيبَوَيْهِ يدفعه لأنه لا يجوز حذف حرف القسم إِلاَّ مع اسم الله ويكون قوله : { والحق أَقُولُ } معترضاً بين القسم وجوابه قال الزمخشري : كأنه قيل : ولا أقولُ إلاَّ الحَقَّ يعني أن تقديم المفعول أفاد الحصر .

والمراد بالحق إما الباري تعالى كقوله : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } [ النور : 25 ] وإمّا نقيض الباطل .

والثاني : أنه منصوب على الإغراء أي الزّمُوا الحَقَّ .

والثالث : أنه مصدر مؤكد لمضْمُونِ قَوْلِهِ : «لأَمْلأَنَّ » قال الفَّرَاء : هو على معنى قولك : حَقًّا لآتَينَّكَ ، ووجود الألف واللام وطرحهما سواء : أي لأملأن جهنم حقاً . انتهى . وهذا لا يتمشّى مع قول البصريين ، فإن شرط نصب المصدر المؤكد لمضمون الجملة أن يكون بعد جملة ابتدائية جزءاها معرفتان جَامِدان . وجوز ابن العِلْجِ أن يكون الخبر نكرة ، وأيضاً فإن المصدر المؤكد لا يجوز تقديمه على الجملة المؤكد هو لمضمونها ؛ وهذا قد تقدم .

وأما الثاني فمنصوب «بأَقُولُ » بعده ، والجملة معترضة كما تقدم ، وجوز الزمخشري أن يكون منصوباً على التكرير بمعنى أنَّ الأولَ والثانيَ كليهما منصوبان بأقُولُ وسيأتي إيضاح ذلِك في عبارته وقرأ عاصمٌ وحمزة برفع الأول ونصب الثاني ، فرفع الأول من أوجه :

أحدها : أنه مبتدأ وخبره مضمر تقديره فالحق مِنِّي أو فالحَقُّ أَنَا .

والثاني : أنه مبتدأ خبره «لأَمْلأَنَّ » ، قاله ابن عطية ، قال : لأن المعنى إني أمْلأُ . قال أبو حيان : وهذا ليس بشيء ؛ لأن «لأَمْلأَنَّ » جوابُ قسم ويجب أن يكون جملة فلا تَتَقَدَّرُ بمفرد ، وأيضاً ليس مصدراً مقدراً بحرف مصدريّ والفعل حتى ينحل إليهما وَلِكنَّهُ لما صحَّ إِسناد ما قدر إلى المبتدأ حكم أنَّه خبرٌ عنه .

قال شهاب الدين : وتأويل ابن عطية صحيحٌ من حيث المعنى لا من حيثُ الصناعةُ .

الثالث : أنه مبتدأ خبره مضمر تقديره فالحَقُّ قَسَمِي و «لأَمْلأَنَّ » جواب القسم ، كقوله : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الحجر : 72 ] ولكن حذف الخبر هنا ليس بواجب لأنه ليس نصا في اليمين ، بخلاف «لعمرك » ومثله قول امرئ القيس :

فَقُلْتُ يَمِينُ اللَّهِ أَبْرَحُ قَاعِداً***وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالِي

وأما نصب الثاني فبالفعل بعده ، أي وأنا أقولُ الحقَّ وقرأ ابنُ عَبَّاس ومجاهدٌ والأعمشُ برفعهما ، فرفع الأول على ما تقدم ، ورفع الثاني بالابتداء وخبره الجملة بعده ، والعائدُ محذوفٌ كقوله تعالى في قراءة ابن عارم : «وَكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى » وقول أبي النَّحْمِ :

قَدْ أَصْبَحَتْ أُمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي***عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أَصْنَعِ

ويجوز أن يرتفع على التكرير عند الزمخشري وسيأتي ، وقرأ الحسن وعيسى بجرِّهما وتخريجهما على أن الأول مجرور بواو القسم مقدرة فَوَالحَقِّ و «الحَقّ » عطف عليه كقولك : وَاللَّهِ وَاللَّهِ لأَقُومَنّ « ، و «أَقُولُ » اعتراضٌ بين القسم وجوابه ويجوز أن يكون مجروراً على الحكاية وهو منصوب المحلّ «بأقولُ » بعده ، قال الزمخشريّ : ومجرورين- أي وَقُرِئَا مَجْرُورَيْنِ- على أن الأول مقسم به قد أضمِر حرف قسمه كقولك : «واللَّهِ لأَفْعَلَنّ والحَقِّ أقولُ » أي ولا أقولُ إلاّ الحقَّ على حكاية لفظ المقسم به ومعناه التوكيد والتشديد ، وهذا الوجه جائز في المرفوع والمنصوب أيضاً وهو وجهٌ دقيقٌ حسنٌ . انتهى . يعني أنه أعمل القول في قوله : «وَالحَقّ » على سبيل الحكاية فيكون منصوباً بأقول سواء نُصب أو رُفِعَ أو جر كأنه قيل : وأقول هذا اللفظ المتقدم مقيداً بما لفظ به أولاً .