{ ومزاجه من تسنيم } شرب ينصب عليهم من علو في غرفهم ومنازلهم ، وقيل : يجري في الهواء متسنماً فينصب في أواني أهل الجنة على قدر ملئها ، فإذا امتلأت أمسك . وهذا معنى قول قتادة . وأصل الكلمة السنام من العلو ، يقال للشيء المرتفع : سنام ، ومنه : سنام البعير . قال الضحاك : هو شراب اسمه تسنيم ، وهو أشرف الشراب . قال ابن مسعود وابن عباس : هو خالص للمؤمنين المقربين يشربونها صرفاً ويمزج لسائر أهل الجنة . وهو قوله : { ومزاجه من تسنيم } { عينا يشرب بها المقربون } . وروى يوسف بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله : { من تسنيم } ؟ قال : هذا مما قال الله تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } ( السجدة- 17 ) .
وقوله - سبحانه - : { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ . عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون } صفة ثالثة من صفات هذا الرحيق .
والمزاج : ما يمزج به الشئ ، ويطلق على الممزوج بالشئ - كما هنا - فهو من إطلاق المصدر على المفعول .
والتسنيم : علم لعين فى الجنة مسماة بهذا الاسم ، وهذا اللفظ مصدر سنمه إذا رفعه . يقال : سنم فلان الطعام . إذا جعله كهيئة السنام فى ارتفاعه .
قالوا : وسميت هذه العين بهذا الاسم ، لأنها تنبع من مكان مرتفع ، أو لعلو مكانتها .
ووصفه بأنه مختوم ختامه مسك ، قد يفيد أنه معد في أوانيه ، وأن هذه الأواني مقفلة مختومة ، تفض عند الشراب ، وهذا يلقي ظل الصيانة والعناية ! . كما أن جعل الختم من المسك فيه أناقة ورفاهية ! وهذه الصورة لا يدركها البشر إلا في حدود ما يعهدون في الأرض . فإذا كانوا هنالك كانت لهم أذواق ومفاهيم تناسب تصورهم الطليق من جو الأرض المحدود !
وقبل أن يتم وصف الشراب الذي يجيء في الآيتين التاليتين : ( ومزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون ) . . أي أن هذا الرحيق المختوم يفض ختامه ثم يمزج بشيء من هذه العين المسماة : ( تسنيم )التي ( يشرب بها المقربون ) . . قبل أن يتم الوصف يلقي بهذا الإيقاع ، وبهذا التوجيه : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . . وهو إيقاع عميق يدل على كثير . . .
إن أولئك المطففين ، الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ولا يحسبون حساب اليوم الآخر ، ويكذبون بيوم الحساب والجزاء ، ويرين على قلوبهم الإثم والمعصية . . إن هؤلاء إنما يتنافسون في مال أو متاع من متاع الأرض الزهيد . يريد كل منهم أن يسبق إليه ، وأن يحصل على أكبر نصيب منه . ومن ثم يظلم ويفجر ويأثم ويرتكب ما يرتكب في سبيل متاع من متاع الأرض زائل . .
وما في هذا العرض القريب الزهيد ينبغي التنافس . إنما يكون التنافس في ذلك النعيم وفي ذلك التكريم : ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . . فهو مطلب يستحق المنافسة ، وهو أفق يستحق السباق ، وهو غاية تستحق الغلاب .
والذين يتنافسون على شيء من أشياء الأرض مهما كبر وجل وارتفع وعظم ، إنما يتنافسون في حقير قليل فان قريب . والدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة . ولكن الآخرة ثقيلة في ميزانه . فهي إذن حقيقة تستحق المنافسة فيها والمسابقة . .
ومن عجب أن التنافس في أمر الآخرة يرتفع بأرواح المتنافسين جميعا . بينما التنافس في أمر الدنيا ينحط بها جميعا . والسعي لنعيم الآخرة يصلح الأرض ويعمرها ويطهرها للجميع . والسعي لعرض الدنيا يدع الأرض مستنقعا وبيئا تأكل فيه الديدان بعضها البعض . أو تنهش فيه الهوام والحشرات جلود الأبرار الطيبين !
والتنافس في نعيم الآخرة لا يدع الأرض خرابا بلقعا كما قد يتصور بعض المنحرفين . إنما يجعل الإسلام الدنيا مزرعة الآخرة ، ويجعل القيام بخلافة الأرض بالعمار مع الصلاح والتقوى وظيفة المؤمن الحق . على أن يتوجه بهذه الخلافة إلى الله ، ويجعل منها عبادة له تحقق غاية وجوده كما قررها الله - سبحانه - وهو يقول : وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون .
وإن قوله ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . . لهو توجيه يمد بأبصار أهل الأرض وقلوبهم وراء رقعة الأرض الصغيرة الزهيدة ، بينما هم يعمرون الأرض ويقومون بالخلافة فيها . ويرفعها إلى آفاق أرفع وأطهر من المستنقع الآسن بينما هم يطهرون المستنقع وينظفونه !
إن عمر المرء في هذه العاجلة محدود ، وعمره في الآجلة لا يعلم نهايته إلا الله . وإن متاع هذه الأرض في ذاته محدود . ومتاع الجنة لا تحده تصورات البشر . وإن مستوى النعيم في هذه الدنيا معروف ومستوى النعيم هناك يليق بالخلود ! فأين مجال من مجال ? وأين غاية من غاية ? حتى بحساب الربح والخسارة فيما يعهد البشر من الحساب ? !
ألا إن السباق إلى هناك . . ( وفي ذلك فليتنافس المتنافسون ) . .
و «المزاج » : الخلط ، والضمير عائد على الرحيق ، واختلف الناس في { تسنيم } فقال ابن عباس وابن مسعود : { تسنيم } أشرف شراب في الجنة وهو اسم مذكر لماء عين في الجنة وهي عين يشربها المقربون صرفاً . ويمزج رحيق الأبرار بها ، قاله ابن مسعود وابن عباس والحسن وأبو صالح وغيرهم ، وقال مجاهد ما معناه : إن تسنيماً مصدر من سنمت إذا عليت ومنه السنام ، فكأنها عين قد عليت على أهل الجنة فهي تنحدر ، وذهب قوم إلى أن { الأبرار } و «المقربين » في هذه الآية لمعنى واحد ، يقال : لكل من نعم في الجنة ، وذهب الجمهور من المتأولين إلى أن منزلة الأبرار دون المقربين ، وأن { الأبرار } : هم أصحاب اليمين وأن المقربين هم السابقون ، و { عيناً } منصوب إما على المدح ، وإما أن يعمل فيه { تسنيم } على رأي من رآه مصدراً ، أو ينتصب على الحال من { تسنيم } أو { يسقون } ، قاله الأخفش وفيه بعد .
واعلم أن نظم التركيب في هذه الجملة دقيق يحتاج إلى بيان وذلك أن نجعل الواو اعتراضية فقوله : { وفي ذلك } هو مبدأ الجملة . وتقديم المجرور لإفادة الحصر أي وفي ذلك الرحِيققِ فليتنافس الناس لا في رحيق الدنيا الذي يتنافس فيه أهل البذخ ويجلبونه من أقاصي البلاد وينفقون فيه الأموال . ولما كانت الواو اعتراضية لم يكن إشكال في وقوع فاء الجواب بعدها . والفاءُ إما أن تكون فصيحة ، والتقدير : إذا علمتم الأوصاف لهذا الرحيق فليتنافس فيه المتنافسون ، أو التقدير : وفي ذلك فلتتنافسوا فليتنافس فيه المتنافسون فتكون الجملة في قوة التذييل لأن المقدر هو تنافس المخاطبين ، والمصرح به تنافس جميع المتنافسين فهو تعميم بعد تخصيص ، وإما أن تكون الفاء فاء جواب لشرط مقدر في الكلام يؤذن به تقديم المجرور لأن تقديم المجرور كثيراً ما يعامل معاملة الشرط ، كما روي قولُ النبي صلى الله عليه وسلم " كما تكونوا يُوَلّ عليكم " بجزم « تكونوا » و« يُوَلّ » ، فالتقدير : إن علمتم ذلك فليتنافس فيه المتنافسون . وإما أن تكون الفاء تفريعاً على محذوف على طريقة الحذف على شريطة التفسير ، والتقدير : وتنافسوا صيغة أمر في ذلك ، فليتنافس المتنافسون فيه ، ويكون الكلام مؤذناً بتوكيد فعل التنافس لأنه بمنزلة المذكور مرتين ، مع إفادة التخصص بتقديم المجرور .
وجملة : { وفي ذلك فليتنافس المتنافسون } معترضة بين جملة : { يسقون من رحيق } الخ وجملة : { ومزاجه من تسنيم } .
والتنافس : تفاعل من نَفِسَ عليه بكذا إذا شح به عليه ولم يره أهلاً له وهو من قبيل الاشتقاق من الشيء النّفيس ، وهو الرفيع في نوعه المرغوب في تحصيله . وقد قيل : إن الأصل في هذه المادة هو النَفْس . فالتنافس حصول النفاسة بين متعدد .
ولام الأمر في { فليتنافس } مستعملة في التحريض والحث .
و { مِزاجه } : ما يمزج به . وأصله مصدر مازج بمعنى مزَج ، وأطلق على الممزوج به فهو من إطلاق المصدر على المفعول ، وكانوا يمزجون الخمر لئلا تغلبهم سَوْرتها فيسرع إليهم مغيب العقول لأنهم يقصدون تطويل حصة النشوة للالتذاذ بدبيب السكر في العقل دون أن يغُتّه غتّاً فلذلك أكثر ما تشرب الخمر المعتقة الخالصة تُشرب ممزوجة بالماء . قال كعب بن زهير :
شُجَّت بذي شبم من ماء محقبة *** صَاف بأبْطَحَ أضحى وهَو مَشمول
يَسقون مَن وَرَدَ البريضَ عليهمُ *** بَرَدَى يُصَفَّقُ بالرحيق السَّلْسَلِ
وتنافسهم في الخمر مشهور من عوائدهم وطفحت به أشعارهم . كقول لبيد :
أغلي السِّباء بكل أدكن عاتق *** أو جونة قُدحت وفُض ختامها
و { تسنيم } علم لعين في الجنة منقول من مصدر سنَّم الشيءَ إذا جعله كهيئة السِّنام . ووجهوا هذه التسمية بأن هذه العين تصبّ على جنانهم من علوّ فكأنها سَنام . وهذا العلم عربي المادة والصِّيغة ولكنه لم يكن معروفاً عند العرب فهو مما أخبر به القرآن ، ولذا قال ابن عباس لمَّا سئل عنه : « هذا مما قال الله تعالى : { فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين } [ السجدة : 17 ] ، يريد لا يعلمون الأشياء ولا أسماءها إلا ما أخبر الله به . ولغرابة ذلك احتيج إلى تبيينه بقوله : { عيناً يشرب بها المقربون } ، أي حال كون التسنيم عيناً يشرب منها المقرّبون .
و { المقرَّبون } : هم الأبرار ، أي فالشاربون من هذا الماء مقربون .