وقوله - سبحانه - : { وَنَادَيْنَاهُ أَن يا إبراهيم . قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ } أى : وعندما صرع إبراهيم ابنه ليذبحه ، واستسلما لأمرنا . . نادينا إبراهيم بقولنا { وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم . قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ } أى : قد فعلت ما أمرناك به ، ونفذت ما رأيته فى رؤياك تنفيذا كاملا ، يدل على صدقك فى إيمانك ، وعلى قوة إخلاصك .
قال الجمل : فإن قلت : كيف قال الله - تعالى - لإبراهيم : قد صدقت الرؤيا وهو إنما رأى أن يذبح ابنه ، وما كان تصديقها إلا لو حصل منه الذبح .
قلت : جعله الله مصدقا لأنه بذل جهده ووسعه ، وأتى بما أمكنه ، وفعل ما يفعله الذابح ، فأتى بالمطلوب ، وهو انقيادها لأمر الله .
وجملة { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } تعليل لما قبلها . أى : فعلنا ما فعلنا من تفريج الكرب عن إبراهيم وإسماعيل ، لأن سنتنا قد اقتضت أن نجازى المسحنين الجزاء الذى يرفع درجاتهم ، ويفرج كرباتهم ، ويكشف الهم والغم عنهم .
وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما . فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا :
( وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا . إنا كذلك نجزي المحسنين . إن هذا لهو البلاء المبين . وفديناه بذبح عظيم ) . .
قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلاً . فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه ، ولو كان هو الابن فلذة الكبد . ولو كانت هي النفس والحياة . وأنت - يا إبراهيم - قد فعلت . جدت بكل شيء . وبأعز شيء . وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين . فلم يبق إلا اللحم والدم . وهذا ينوب عنه ذبح . أي ذبح من دم ولحم ! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت . يفديها بذبح عظيم . قيل : إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلاً من إسماعيل !
وقيل له : ( إنا كذلك نجزي المحسنين ) . . نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء . ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء . ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء . ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء !
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى ، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان . وجمال الطاعة . وعظمة التسليم . والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم ، الذي تتبع ملته ، والذي ترث نسبه وعقيدته . ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا ? ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه . ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا ، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم !
وقوله تعالى : { وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } أي : قد حصل المقصودُ من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح .
وذكر السدي وغيره أنه أمَرّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئًا ، بل حال بينها وبينه صفيحة من نحاس ونودي إبراهيم ، عليه السلام ، عند ذلك : { قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا } . وقوله : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ } أي : هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ، ونجعل لهم من أمرهم فرجا ومخرجا ، كقوله تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا } [ الطلاق : 2 ، 3 ] .
وقد استدل بهذه الآية والقصة جماعة من علماء الأصول على صحة النسخ قبل التمكن من الفعل ، خلافا لطائفة من المعتزلة ، والدلالة من هذه ظاهرة ؛ لأن الله تعالى شرع لإبراهيم ذَبْحَ ولده ، ثم نسخه عنه وصرفه إلى الفداء ، وإنما كان المقصود من شرعه أولا إثابة الخليل على الصبر على ذبح ولده وعزمه على ذلك ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ }
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
وقوله:"وَنادَيْناهُ أنْ يا إبْراهِيمُ قَدْ صَدّقْتَ الرؤْيا" وهذا جواب قوله: "فَلَمّا أسْلَما "ومعنى الكلام: فلما أسلما وتلّه للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم...
ويعني بقوله: "قَدْ صَدّقْتَ الرّؤْيا" التي أريناكها في منامك بأمرناك بذبح ابنك.
وقوله: "إنّا كَذلكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ" يقول: إنا كما جَزَيْناك بطاعتنا يا إبراهيم، كذلك نجزى الذين أحسنوا، وأطاعوا أمرنا، وعملوا في رضانا.
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي 1376 هـ :
{وَنَادَيْنَاهُ} في تلك الحال المزعجة، والأمر المدهش.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وعرف الله من إبراهيم وإسماعيل صدقهما، فاعتبرهما قد أديا وحققا وصدقا: (وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. إنا كذلك نجزي المحسنين. إن هذا لهو البلاء المبين. وفديناه بذبح عظيم)..
قد صدقت الرؤيا وحققتها فعلاً. فالله لا يريد إلا الإسلام والاستسلام بحيث لا يبقى في النفس ما تكنه عن الله أو تعزه عن أمره أو تحتفظ به دونه، ولو كان هو الابن فلذة الكبد. ولو كانت هي النفس والحياة. وأنت -يا إبراهيم- قد فعلت. جدت بكل شيء. وبأعز شيء. وجدت به في رضى وفي هدوء وفي طمأنينة وفي يقين. فلم يبق إلا اللحم والدم. وهذا ينوب عنه ذبح. أي ذبح من دم ولحم! ويفدي الله هذه النفس التي أسلمت وأدت. يفديها بذبح عظيم. قيل: إنه كبش وجده إبراهيم مهيأ بفعل ربه وإرادته ليذبحه بدلاً من إسماعيل!
وقيل له: (إنا كذلك نجزي المحسنين).. نجزيهم باختيارهم لمثل هذا البلاء. ونجزيهم بتوجيه قلوبهم ورفعها إلى مستوى الوفاء. ونجزيهم بإقدارهم وإصبارهم على الأداء. ونجزيهم كذلك باستحقاق الجزاء!
ومضت بذلك سنة النحر في الأضحى، ذكرى لهذا الحادث العظيم الذي يرتفع منارة لحقيقة الإيمان. وجمال الطاعة. وعظمة التسليم. والذي ترجع إليه الأمة المسلمة لتعرف فيه حقيقة أبيها إبراهيم، الذي تتبع ملته، والذي ترث نسبه وعقيدته. ولتدرك طبيعة العقيدة التي تقوم بها أو تقوم عليها ولتعرف أنها الاستسلام لقدر الله في طاعة راضية واثقة ملبية لا تسأل ربها لماذا؟ ولا تتلجلج في تحقيق إرادته عند أول إشارة منه وأول توجيه. ولا تستبقي لنفسها في نفسها شيئا، ولا تختار فيما تقدمه لربها هيئة ولا طريقة لتقديمه إلا كما يطلب هو إليها أن تقدم!
يعني: ارفع يدك يا إبراهيم عن ذبح ولدك الوحيد، فما كان الأمرُ إلا بلاءً مبيناً، أي: واضح قاسٍ عليك أنت وولدك، وهو مبين لأنه يُبين قوة عقيدة إبراهيم -عليه السلام- في تلقِّي الأمر من الله، وإنْ كان صعباً وقاسياً، ثم الانصياع له والطاعة، وكذلك كان البلاء في حَقِّ ولده الذي خضع وامتثل.