الآيتان 104 و105 وقوله تعالى : { وناديناه أن يا إبراهيم } { قد صدّقت الرؤيا } يجوز أن يحتج بهذه الآية على المعتزلة لقولهم : إن الله عز وجل إذا أمر أحدا يجوز ذلك الفعل منه ، وأراد أن يفعل ما أمر به .
ونحن نقول : يجوز أن يريد غير الذي أمر به ، يريد أن يكون ما علم أنه يكون منه ، ويختاره ، حين{[17860]} قال عز وجل { يا إبراهيم } { قد صدّقت الرؤيا } ولم يكن منه بحقيقة ذبح الولد ، وقد أمره بذبحه .
فلو كان في الأمر إرادة كون ما أمره به لكان لا يصدّقه في الوفاء بالرؤيا . ولم يكن ذلك منه حقيقة .
لكنهم يقولون : إن الأمر بالذبح لم يكن إلا ما كان منه من ذبح الكبش من ذلك أراد ، فكان ما أراد ، ومذهبهم الاحتيال لدفع ما ذكرنا .
لكن نقول : إن الأمر بالذبح إنما كان بذبح الولد حقيقة لا بذبح الكبش . دليله [ في وجهين :
أحدهما : ]{[17861]} قول إبراهيم عليه السلام حين{[17862]} قال : { إني أرى في المنام أني أذبحك } وقال{[17863]} ولده : { يا أبت افعل ما تؤمر } لو لم يجعل الأمر من الله له بالذبح أمرا بالذبح على ذبح الولد حقيقة لكنا نُجهّلهما في قولهما أوامر{[17864]} الله وفي تسميتهما ما يسميان ، فلا نجهّلهما في ذلك . فدل أن الأمر كان على حقيقة ذبح الولد لا على ذبح الكبش على ما يقولون ، والله أعلم .
والثاني : أن إبراهيم وولده عليهما السلام قد مُدحا ، وأثني عليهما بالصنيع الذي صنعا : هذا بإضجاعه إياه وهذا بالبذل له نفسه له [ والطاعة له ]{[17865]} في ذلك .
فلو كان الأمر منه لهما لا غير الإضجاع والبذل لذلك له [ لم ]{[17866]} يكن لهما في الصنيع فضل مدح ، ولا فضل ثناء ومنقبة ، إذ لأحدهما{[17867]} إضجاع الولد لذلك وللآخر البذل له . فإذا مدحا ، وأُثني عليهما في صنيعهما الذي صنعا ، وصار لهما منقبة عظيمة إلى يوم القيامة حتى سمّي هذا ذبيح الله وهذا وفيّ الله حين{[17868]} قال الله عز وجل { وفديناه بذبح عظيم } [ الصافات : 107 ] .
فلو كان الأمر بالذبح ذبح الكبش فداه عنه ، إذ لا يسمى الفداء إلا بعد إبدال غير عنه وإقامة غير مقامه . دل على ما ذكرنا ، والله أعلم .
لكنه إذا أضجعه { وتلّه للجبين } على [ ما ذكرنا ]{[17869]} صارا ممنوعين عن ذلك الفعل غير تاركين أمر الله عز وجل على [ ما ]{[17870]} ذكر في القصة أن الشفرة قد انقلبت عن وجهها ، فلم تقطع . فمن أُمر بأمر ، ثم مُنع عما أُمر به ، وحيل بينه وبين ما أمر به ، لم يصر تاركا للأمر ، ولا كان موصوفا بالترك له . لذلك كان ما ذكر ، والله أعلم .
ثم يجوز أن يستدل بهذه الآية [ في مسائل ]{[17871]} لأصحابنا :
في المرأة إذا أسلمت [ نفسها لزوجها ، ولم يكن هنالك ]{[17872]} ما يمنع الزوج عن الاستمتاع بها والجماع ، صارت موفية مسلّمة ما على نفسها إلى زوجها ، فاستوجبت بذلك كمال الصداق ، ولزمتها العدة ، إذ لا تملك سوى ما فعلت ، وإن لم يجامعها زوجها .
[ والثانية ]{[17873]} : في من عنده أمانة ، إذا سلّمها إلى صاحبها ، وصيّرها بحال يقدر على أخذها وقبضها ، يصير مسلِّما خارجا منها يوما ، وإن لم يقبضها الآخر ، ولم تقع في يده .
[ والثالثة ]{[17874]} : في البائع إذا سلّم المبيع إلى المشتري ، وخلّى بينه وبين ذلك ، يصير مسلِّما إليه خارجا من ضمان ذلك وعهدته ، وإن لم يقبضه المشتري .
ونحوها{[17875]} من المسائل مما يكثر إحصاؤها إذ ليس في وسعهم إلا ذلك المقدار من الفعل .
وقوله تعالى : { وناديناه أن يا إبراهيم } { قد صدّقت الرؤيا } لو كان هذا القول بعد ذبح الكبش ، ففيه حجة لقول أصحابنا حين{[17876]} قال أبو حنيفة ، رحمه الله : إن من أوجب على نفسه ذبح ولده يخرج منه بذبح الكبش لما أخبر أنه قد قد صدّق الرؤيا بذبح الكبش . فعلى ذلك يصير هذا موجبا على نفسه ذبح كبش ، لا غير ، والله أعلم .
وإن كان قوله : { قد صدّقت الرؤيا } قبل ذبح الكبش بإضجاعه إياه وإسلامه لذلك ففيه ما ذكرنا أنه بذل تسليمها نفسه منزلة إتيان غير ذلك ، لا أنه ترك ذلك .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.