الجامع لأحكام القرآن للقرطبي - القرطبي  
{وَنَٰدَيۡنَٰهُ أَن يَـٰٓإِبۡرَٰهِيمُ} (104)

فنودي " يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا " فالتفت فإذا بكبش . ذكره المهدوي . وقد تقدمت الإشارة إلى عدم صحته ، وأن المعنى لما اعتقد الوجوب وتهيأ للعمل ، هذا بهيئة الذبح ، وهذا بصورة المذبوح ، أعطيا محلا للذبح فداء ولم يكن هناك مر سكين . وعلى هذا يتصور النسخ قبل الفعل على ما تقدم . والله أعلم . قال الجوهري : " وتله للجبين " أي صرعه ، كما تقول : كبه لوجهه . الهروي : والتل الدفع والصرع ، ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : ( وتركوك لمتلك ) أي لمصرعك . وفي حديث آخر : ( فجاء بناقة كوماء فتلها ) أي أناخها . وفي الحديث : ( بينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي ) قال ابن الأنباري : أي فألقيت في يدي . يقال : تللت الرجل إذا ألقيته . قال ابن الأعرابي : فصبت في يدي ، والتل الصب . يقال : تل يتل إذا صب ، وتل يتل بالكسر إذا سقط .

قلت : وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب فشرب منه ، وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ ؛ فقال للغلام : ( أتأذن لي أن أعطي هؤلاء ) فقال الغلام : لا والله ، لا أوثر بنصيبي منك أحدا . قال : فتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده ، يريد جعله في يده . وقال بعض أهل الإشارة : إن إبراهيم ادعى محبة الله ، ثم نظر إلى الولد بالمحبة ، فلم يرض حبيبه محبة مشتركة ، فقيل له : يا إبراهيم اذبح ولدك في مرضاتي ، فشمر وأخذ السكين وأضجع ولده ، ثم قال : اللهم تقبله مني في مرضاتك . فأوحى الله إليه : يا إبراهيم لم يكن المراد ذبح الولد ، وإنما المراد أن ترد قلبك إلينا ، فلما رددت قلبك بكليته إلينا رددنا ولدك إليك . وقال كعب وغيره : لما أرى إبراهيم ذبح ولده في منامه ، قال الشيطان : والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن منهم أحدا أبدا . فتمثل الشيطان لهم في صورة الرجل ، ثم أتى أم الغلام وقال : أتدرين أين يذهب إبراهيم بابنك ؟ قالت : لا . قال : إنه يذهب به ليذبحه . قالت : كلا هو أرأف به من ذلك . فقال : إنه يزعم أن ربه أمره بذلك . قالت : فإن كان ربه قد أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ربه . ثم أتى الغلام فقال : أتدري أين يذهب بك أبوك ؟ قال : لا . قال : فإنه يذهب بك ليذبحك . قال : ولم ؟ قال : زعم أن ربه أمره بذلك . قال : فليفعل ما أمره الله به ، سمعا وطاعة لأمر الله . ثم جاء إبراهيم فقال : أين تريد ؟ والله إني لأظن أن الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك . فعرفه إبراهيم فقال : إليك عني يا عدو الله ، فوالله لأمضين لأمر ربي . فلم يصب الملعون منهم شيئا . وقال ابن عباس : لما أمر إبراهيم بذبح ابنه عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الأخرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى .

واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه فقيل : بمكة في المقام . وقيل : في المنحر بمنى عند الجمار التي رمى بها إبليس لعنه الله . قاله ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب . وحكي عن سعيد بن جبير : أنه ذبحه على الصخرة التي بأصل ثبير بمنى . وقال ابن جريج : ذبحه بالشام وهو من بيت المقدس على ميلين . والأول أكثر ، فإنه ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة ، فدل على أنه ذبحه بمكة . وقال ابن عباس : فوالذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام ، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه من ميزاب الكعبة وقد يبس . أجاب من قال بأن الذبح وقع بالشام : لعل الرأس حمل من الشام إلى مكة . والله أعلم .