وقوله - سبحانه - : { إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ . يَوْمَ تبلى السرآئر . فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِر } . بيان لكمال قدرته - تعالى- وأنه كما أنشأ الإِنسان من ماء مهين ، قادر على إعادته إلى الحياة بعد موته . والضمير فى قوله : { إنه } يعود إلى الله - عز وجل - لأن الخالق للإِنسان من ماء دافق هو الله - تعالى - .
والضمير فى قوله " رجعه " يعود إلى الإِنسان المخلوق .
وقوله : { تبلى } من البلاء بمعنى الاختبار والامتحان . ومنه قوله - تعالى - { إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين } والمراد بقوله { تبلى } هنا : الكشف والظهور .
و { السرائر } جمع سريرة ، وهى ما أسره الإِنسان من أقوال وأفعال ، والظرف " يوم " متعلق بقوله : { رجعه } .
أى : إن الله - تعالى - الذى قدر على خلق الإِنسان من ماء دافق .
يخرج من بين الصلب والترائب . . لقادر - أيضا - على إعادة خلق هذا الإِنسان بعد موته ، وعلى بعثه من قبره للحساب والجزاء ، يوم القيامة ، يوم تكشف المكنونات ، وتبدو ظاهرة للعيان ، وترفع الحجب عما كان يخفيه الإِنسان فى دنياه من عقائد ونيات وغيرهما .
وفى هذا اليوم لا يكون للإِنسان من قوة تحميه من الحساب والجزاء ، ولا يكون له من ناصر ينصره من بأس الله - تعالى - أو من مدافع يدافع عنه .
وكما ينفذ الحافظ إلى النفس الملفعة بالسواتر ! كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل ناصر : ( فما له من قوة ولا ناصر ) . . ما له من قوة في ذاته ، وما له من ناصر خارج ذاته . . والتكشف من كل ستر ، مع التجرد من كل قوة ، يضاعف شدة الموقف ؛ ويلمس الحس لمسة عميقة التأثير . وهو ينتقل من الكون والنفس ، إلى نشأة الإنسان ورحلته العجيبة ، إلى نهاية المطاف هناك ، حيث يتكشف ستره ويكشف سره ، ويتجرد من القوة والنصير . .
وقوله : فَمَا لَهُ مِنْ قُوّةٍ وَلا ناصِرٍ يقول تعالى ذكره : فما للإنسان الكافر يومئذٍ من قوّة يمتنع بها من عذاب الله ، وأليم نكاله ، ولا ناصر ينصره ، فيستنقذه ممن ناله بمكروه ، وقد كان في الدنيا يرجع إلى قوّة من عشيرته ، يمتنع بهم ممن أراده بسوء ، وناصر من حليف ينصره على من ظلمه واضطهده . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : فَمَا لَهُ مِنْ قُوّةٍ وَلا ناصِر ينصره من الله .
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، في قوله : وَلا ناصِرٍ قال : من قوّة يمتنع بها ، ولا ناصر ينصره من الله .
حدثني عليّ بن سهل ، قال : حدثنا ضَمْرة بن ربيعة ، عن سفيان الثوريّ ، في قوله : مِنْ قُوّةٍ وَلا ناصِرٍ قال : القوّة : العشيرة ، والناصر : الحليف .
ولما كان بلو السرائر مؤذناً بأن الله عليم بما يستره الناس من الجرائم وكان قوله : { يوم تبلى السرائر } مشعراً بالمؤاخذة على العقائد الباطلة والأعمال الشنيعة فرع عليه قوله : { فما له من قوة ولا ناصر } ، فالضمير عائد إلى { الإنسان } [ الطارق : 5 ] . والمقصود ، المشركون من الناس لأنهم المسوق لأجلهم هذا التهديد ، أي فما للإِنسان المشرك من قوة يدفع بها عن نفسه وما له من ناصر يدافع عنه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{فما له من قوة} يمتنع من الله بقوته {ولا} له {ناصر} ينصره من الله تعالى،...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
فما للإنسان الكافر يومئذٍ من قوّة يمتنع بها من عذاب الله، وأليم نكاله، ولا ناصر ينصره، فيستنقذه ممن ناله بمكروه، وقد كان في الدنيا يرجع إلى قوّة من عشيرته، يمتنع بهم ممن أراده بسوء، وناصر من حليف ينصره على من ظلمه واضطهده...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
أحدها: أن ليست له قوة في كتمان ذلك على نفسه، ولا له قوة نفي العذاب عن نفسه.
الثاني: ما له من قوة، يمتنع بها، ولا ناصر، يمنعه عن نزول العذاب به.
الثالث: أن الكفار كانوا يفتخرون بقواهم، وكثرة أنصارهم في الدنيا، لا تنفعهم في الآخرة، ولا تدفع عنهم بأس الله تعالى،...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{فَمَا لَهُ} فما للإنسان {مِن قُوَّةٍ} من منعة في نفسه يمتنع بها {وَلاَ نَاصِرٍ} ولا مانع يمنعه...
دلت الآية على أنه لا قوة للعبد ذلك اليوم، لأن قوة الإنسان إما أن تكون له لذاته أو مستفادة من غيره، فالأول منفي بقوله تعالى: {فما له من قوة} والثاني منفي بقوله: {ولا ناصر} والمعنى ما له من قوة يدفع بها عن نفسه ما حل من العذاب {ولا ناصر} ينصره في دفعه. ولا شك أنه زجر وتحذير، ومعنى دخول" مِن "في قوله: {من قوة} على وجه النفي لقليل ذلك وكثيره، كأنه قيل: ما له من شيء من القوة ولا أحد من الأنصار...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكما ينفذ الحافظ إلى النفس الملفعة بالسواتر! كذلك تبلى السرائر يوم يتجرد الإنسان من كل قوة ومن كل ناصر: (فما له من قوة ولا ناصر).. ما له من قوة في ذاته، وما له من ناصر خارج ذاته.. والتكشف من كل ستر، مع التجرد من كل قوة، يضاعف شدة الموقف؛ ويلمس الحس لمسة عميقة التأثير. وهو ينتقل من الكون والنفس، إلى نشأة الإنسان ورحلته العجيبة، إلى نهاية المطاف هناك، حيث يتكشف ستره ويكشف سره، ويتجرد من القوة والنصير...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ولما كان بلو السرائر مؤذناً بأن الله عليم بما يستره الناس من الجرائم وكان قوله: {يوم تبلى السرائر} مشعراً بالمؤاخذة على العقائد الباطلة والأعمال الشنيعة فرع عليه قوله: {فما له من قوة ولا ناصر}، فالضمير عائد إلى {الإنسان} [الطارق: 5]. والمقصود، المشركون من الناس لأنهم المسوق لأجلهم هذا التهديد، أي فما للإِنسان المشرك من قوة يدفع بها عن نفسه وما له من ناصر يدافع عنه...