وقوله : { مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا } أى : مطرودين من رحمة الله - تعالى - ومن فضله ، أينما وجدوا وطفر بهم المؤمنون .
و { مَّلْعُونِينَ } منصوب على الحال من فاعل { يُجَاوِرُونَكَ } و { ثقفوا } بمعنى وجدوا . تقول ثقفت الرجل فى الحرب أثقفه ، إذا أدركته وظفرت به .
وقوله : { أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } بيان لما يحيق بهم من عقوبات عند الظفر بهم .
أى : هم ملعونون ومطرودون من رحمة الله بسبب سوء أفعالهم ، فإذا ما أدركوا وظفر بهم ، أخذوا أسارى أذلاء ، وقتلوا تقتيلا شديدا ، وهذا حكم الله - تعالى - فيهم حتى يقلعوا عن نفاقهم وإشاعتهم قالة السوء فى المؤمنين ، وإيذائهم للمسلمين والمسلمات .
وفي النهاية يأتي تهديد المنافقين ومرضى القلوب والمرجفين الذي ينشرون الشائعات المزلزلة في صفوف الجماعة المسلمة . . تهديدهم القوي الحاسم ، بأنهم إذا لم يرتدعوا عما يأتونه من هذا كله ، وينتهوا عن إيذاء المؤمنين والمؤمنات ، والجماعة المسلمة كلها ، أن يسلط الله عليهم نبيه ، كما سلطه على اليهود من قبل ، فيطهر منهم جو المدينة ، ويطاردهم من الأرض ؛ و يبيح دمهم فحيثما وجدوا أخذوا وقتلوا . كما جرت سنة الله فيمن قبلهم من اليهود على يد النبي [ صلى الله عليه وسلم ] وغير اليهود من المفسدين في الأرض في القرون الخالية :
( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ، ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ؛ ملعونين ، أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا . سنة الله في الذين خلوا من قبل . ولن تجد لسنة الله تبديلا ) . .
ومن هذا التهديد الحاسم ندرك مدى قوة المسلمين في المدينة بعد بني قريظة ، ومدى سيطرة الدولة الإسلامية عليها . وانزواء المنافقين إلا فيما يدبرونه من كيد خفي ، لا يقدرون على الظهور ؛ إلا وهم مهددون خائفون .
وقوله : مَلْعُونِينَ إيْنَما ثُقِفُوا أخذوا وَقُتّلُوا تَقْتِيلاً يقول تعالى ذكره : مطرودين منفيين أينما ثقفوا يقول : حيثما لقوا من الأرض أخذوا وقتلوا لكفرهم بالله تقتيلاً . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة مَلْعُونِينَ على كلّ حال أيْنَما ثُقِفُوا أخذوا وَقُتّلُوا تَقْتِيلاً إذا هم أظهروا النفاق .
ونصب قوله : مَلْعُونِينَ على الشتم ، وقد يجوز أن يكون القليل من صفة الملعونين ، فيكون قوله ملعونين مردودا على القليل ، فيكون معناه : ثم لا يجاورونك فيها إلا أقلاء ملعونين يقتلون حيث أصيبوا .
و{ ملعونين } حال مما تضمنه { قليلاً } من معنى الجوار . فالجوار مصدر يتحمل ضمير صاحبه لأن أصل المصدر أن يضاف إلى فاعله ، والتقدير : إلا جوارهم ملعونين . وجعل صاحب « الكشاف » { ملعونين } مستثنى من أحوال بأن يكون حرف الاستثناء دخل على الظرف والحاللِ كما في قوله تعالى : { إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه } [ الأحزاب : 53 ] . وبونُ ما بين هذا وبين ما نظره به لأن ذلك مشتمل على ما يصلح مجيء الحال منه . والوجه هنا هو ما سلكناه في تقدير نظمه .
واللعن : الإِبعاد والطرد . وتقدم قوله تعالى : { وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين } في سورة الحجر ( 35 ) ، وهو مستعمل هنا كناية عن الإِهانة والتجنب في المدينة ، أي يعاملهم المسلمون بتجنبهم عن مخالطتهم ويبتعدون هم من المؤمنين اتقاء ووجلاً فتضمن أن يكونوا متوارين مختفين خوفاً من بطش المؤمنين بهم حيث أغراهم النبي ، ففي قوله : { ملعونين } إيجاز بديع .
وقوله : { أينما ثُقِفُوا } ظرف مضاف إلى جملة وهو متعلِقٌ ب { ملعونين } لأن { ملعونين } حال منهم بعد صفتهم بأنهم في المدينة ، فأفاد عموم أمكنة المدينة . و { أينما } : اسم زمان متضمن معنى الشرط . والثقف : الظفَر والعثور على العدوّ بدون قصد . وقد مَهَّد لهذا الفعل قوله : { ملعونين } كما تقدم .
ومعنى { أخذوا } أُمسكوا . والأخذ : الإِمساك والقبض ، أي أُسروا ، والمراد : أخذت أموالهم إذ أغرى الله النبي صلى الله عليه وسلم بهم .
والتقتيل : قوة القتل . والقوة هنا بمعنى الكثرة لأن الشيء الكثير قوي في أصناف نوعه وأيضاً هو شديد في كونه سريعاً لا إمهال لهم فيه .
و { تقتيلاً } مصدر مؤكد لعامله ، أي قتِّلوا قتلاً شديداً شاملاً . فالتأكيد هنا تأكيد لتسلط القتل على جميع الأفراد المدلولة لضمير { قُتِّلوا } ، لرفع احتمال المجاز في عموم القتل ، فالمعنى : قتلوا قتلاً شديداً لا يفلت منه أحد .
وبهذا الوعيد انكفّ المنافقون عن أذاة المسلمين وعن الإِرجاف فلم يقع التقتيل فيهم إذ لم يحفظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل منهم أحداً ولا أنهم خرج منهم أحد .
وهذه الآية ترشد إلى تقديم إصلاح الفاسد من الأمة على قطعة منها لأن إصلاح الفاسد يكسب الأمة فرداً صالحاً أو طائفة صالحة تنتفع الأمة منها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم « لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبده » . ولهذا شرعت استتابة المرتدّ قبل قتله ثلاثة أيام تعرض عليه فيها التوبة ، وشرعت دعوة الكفّار الذين يغزوهم المسلمون إلى دين الإِسلام قبل الشروع في غزوهم فإن أسلموا وإِلاّ عُرض عليهم الدخول في ذمة المسلمين لأن في دخولهم في الذمة انتفاعاً للمسلمين بجزيتهم والاعتضاد بهم .
وأما قتل القاتل عَمداً فشُرع فيه مجاراةً لقطع الأحقاد من قلوب أولياء القتيل لئلا يقتل بعض الأمة بعضاً ، إذ لا دواء لتلك العلة إلا القصاص . ولذلك رغب الشرع في العفو وفي قبوله . ومن أجل ذلك قال مالك في آية جزاء الذين يحاربون الله ورسله : إن ( أَو ) فيها للتنويع لا للتخيير فقال : يكون الجزاء بقدر جُرْم المحارب وكثرة مُقامه في فساده . وكان النفي من الأرض آخر أصناف الجزاء لأن فيه استبقاءه رجاء توبته وصلاح حاله .