أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبين لهم أن ما جاءهم به من عند ربه أمر عظيم ، لا يليق بعاقل أن يعرض عنه فقال : { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ . } : أى : قل - يا محمد - لهؤلاء المشركين : إن ما جئتكم به من عند ربى من قرآن كريم ، ومن هدايات بها تسعدون فى دنياكم وآخرتكم ، هو خبر عظيم ، يجب أن تلقوا إليه أسماعكم ، وأن تهيئوا نفوسكم لقبوله . . فالآية . . . دعوة هامة لهم لكى يقلعوا عن شركهم ،
وقل لهم : إن ما جئتهم به وما يعرضون عنه أكبر وأعظم مما يظنون . وإن وراءه ما وراءه مما هم عنه غافلون :
( قل : هو نبأ عظيم . أنتم عنه معرضون ) . .
وإنه لأمر أعظم بكثير من ظاهره القريب . إنه أمر من أمر الله في هذا الوجود كله . وشأن من شؤون هذا الكون بكامله . إنه قدر من قدر الله في نظام هذا الوجود . ليس منفصلاً ولا بعيداً عن شأن السماوات والأرض ، وشأن الماضي السحيق والمستقبل البعيد .
ولقد جاء هذا النبأ العظيم ليتجاوز قريشاً في مكة ، والعرب في الجزيرة ، والجيل الذي عاصر الدعوة في الأرض . ليتجاوز هذا المدى المحدود من المكان والزمان ؛ ويؤثر في مستقبل البشرية كلها في جميع أعصارها وأقطارها ؛ ويكيف مصائرها منذ نزوله إلى الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها . ولقد نزل في أوانه المقدر له في نظام هذا الكون كله ، ليؤدي دوره هذا في الوقت الذي قدره الله له .
ولقد حول خط سير البشرية إلى الطريق الذي خطته يد القدر بهذا النبأ العظيم . سواء في ذلك من آمن به ومن صدّ عنه . ومن جاهد معه ومن قاومه . في جيله وفي الأجيال التي تلته . ولم يمر بالبشرية في تاريخها كله حادث أو نبأ ترك فيها من الآثار ما تركه هذا النبأ العظيم .
ولقد أنشأ من القيم والتصورات ، وأرسى من القواعد والنظم في هذه الأرض كلها ، وفي أجيال البشرية جميعها ، ما لم يكن العرب يتصورونه ولو في الخيال !
وما كانوا يدركون في ذلك الزمان أن هذا النبأ إنما جاء ليغير وجه الأرض ؛ ويوجه سير التاريخ ؛ ويحقق قدر الله في مصير هذه الحياة ؛ ويؤثر في ضمير البشرية وفي واقعها ؛ ويصل هذا كله بخط سير الوجود كله ، وبالحق الكامن في خلق السماوات والأرض وما بينهما . وأنه ماض كذلك إلى يوم القيامة . يؤدي دوره في توجيه أقدار الناس وأقدار الحياة .
والمسلمون اليوم يقفون من هذا النبأ كما وقف منه العرب أول الأمر . لا يدركون طبيعته وارتباطها بطبيعة الوجود ؛ ولا يتدبرون الحق الكامن فيه ليعلموا أنه طرف من الحق الكامن في بناء الوجود ؛ ولا يستعرضون آثاره في تاريخ البشرية وفي خط سيرها الطويل استعراضاً واقعياً ، يعتمدون فيه على نظرة مستقلة غير مستمدة من أعداء هذا النبأ الذين يهمهم دائماً أن يصغروا من شأنه في تكييف حياة البشر وفي تحديد خط التاريخ . . ومن ثم فإن المسلمين لا يدركون حقيقة دورهم سواء في الماضي أو الحاضر أو المستقبل . وأنه دور ماض في هذه الأرض إلى آخر الزمان . .
ولقد كان العرب الأولون يظنون أن الأمر هو أمرهم وأمر محمد بن عبدالله [ صلى الله عليه وسلم ] واختياره من بينهم ، لينزل عليه الذكر . وكانوا يحصرون همهم في هذه الشكلية . فالقرآن يوجه أنظارهم بهذا إلى أن الأمر أعظم من هذا جداً . وأنه أكبر منهم ومن محمد بن عبد الله [ صلى الله عليه وسلم ] وأن محمداً ليس إلا حاملاً لهذا النبأ ومبلغاً ؛ وأنه لم يبتدعه ابتداعاً ؛ وما كان له أن يعلم ما وراءه لولا تعليم الله إياه ؛ وما كان حاضراً ما دار في الملأ الأعلى منذ البدء إنما أخبره الله :
ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون أن يوحى إلي إلا أنما أنا نذير مبين . .
القول في تأويل قوله تعالى : { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : قُلْ يا محمد لقومك المكذّبيك فيما جئتهم به من عند الله من هذا القرآن ، القائلين لك فيه : إن هذا إلا اختلاق هُوَ نَبأٌ عَظِيمٌ يقول : هذا القرآن خبر عظيم . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عبد الأعلى بن واصل الأسدي ، قال : حدثنا أبُو أُسامة ، عن شبل بن عباد ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : ( قلْ هُوَ نَبأٌ عَظِيمٌ أنْتُمْ مُعْرِضُونَ ) قال : القرآن .
حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا هشيم ، قال : أخبرنا هشام ، عن ابن سيرين ، عن شريح ، أن رجلاً قال له : أتقضي عليّ بالنبأ ؟ قال : فقال له شريح : أوَ لَيْس القرآن نبأ ؟ قال : وتلا هذه الاَية : ( قُلْ هُوَ نَبأٌ عَظِيمٌ ) قال : وقَضَى عليه .
حدثنا محمد ، قال : حدثنا أحمد ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قوله : ( قُلْ هُو نَبأٌ عَظِيمٌ أنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ ) قال : القرآن .
والنبأ في كلام العرب بمعنى : الخبر .
الإشارة بقوله تعالى : { قل هو نبأ عظيم } إلى التوحيد والمعاد ، فهي إلى القرآن وجميع ما تضمن ، وعظمه أن التصديق به نجاة ، والتكذيب به هلكة . وحكى الطبري : أن شريحاً اختصم إليه أعرابي فشهد عليه ، فأراد شريح أن ينفذ الحكم ، فقال له الأعرابي : أتحكم بالنبأ ؟ فقال شريح : نعم ، إن الله يقول : { قل هو نبأ } ، وقرأ الآية حكم عليه .
قال القاضي أبو محمد : وهذا الجواب من شريح إنما هو بحسب لفظ الأعرابي ولم يحرر معه الكلام ، وإنما قصد إلى ما يقطعه به ، لأن الأعرابي لم يفرق بين الشهادة والنبأ .