وهنا أمر الله - تعالى - رسوله صلى الله عليه وسلم - أن يرد عليهم ردا فيه كل معانى التهديد والوعيد فقال : { قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } و { مِّيعَادُ } يجوز أن يكون مصدرا مرادا به الوعد ، وأن يكون اسم زمان ، والإِضافة للبيان .
والمراد بالساعة الوقت الذى هو فى غاية القلة . وليس ما اصطلح عليه النسا من كونها اى : قل لهم - ايها الرسول الكريم - لا تتعجلوا - ايها الكافرون - ما أخبرتكم عنه من أن يوم القيامة آت لا ريب فيه ، ومن أن العاقبة الطيبة ستكون لنا لا لكم ؛ فإن لكم ميقاتا محدا ، وموعدا معلوما ، يأذن الله - تعالى - بحلول وبانتهاء حياتكم وببعثكم . . { لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً } من الزمان { وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } عنه ساعة كما قال - تعالى - : { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } وكما قال - سبحانه - : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ }
( قل : لكم ميعاد يوم لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون ) . .
وكل ميعاد يجيء في أجله الذي قدره الله له . لا يستأخر لرغبة أحد ، ولا يستقدم لرجاء أحد . وليس شيء من هذا عبثاً ولا مصادفة . فكل شيء مخلوق بقدر . وكل أمر متصل بالآخر . وقدر الله يرتب الأحداث والمواعيد والآجال وفق حكمته المستورة التي لا يدركها أحد من عباده إلا بقدر ما يكشف الله له .
والاستعجال بالوعد والوعيد دليل على عدم إدراك هذه الحقيقة الكلية . ومن ثم فإن أكثر الناس لا يعلمون . وعدم العلم يقودهم إلى السؤال والاستعجال .
ثم قال : { قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ } أي : لكم ميعاد مؤجل معدود محرر ، لا يزداد ولا ينتقص ، فإذا جاء فلا يؤخر ساعة ولا يقدم ، كما قال تعالى : { إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ } [ نوح : 4 ] ، وقال { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ . يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 104 ، 105 ] .
وجملة { قل لكم ميعاد يوم } إلى آخرها مسوقة مساق الجواب عن مقالتهم ولذلك فصلت ولم تعطف ، على طريقة حكاية المحاورات في القرآن ، وهذا الجواب جرى على طريقة الأسلوب الحكيم ، أي أن الأهم للعقلاء أن تتوجه هممهم إلى تحقق وقوع الوعد في الوقت الذي عينه الله له وأنه لا يؤخره شيء ولا يقدمه ، وحسَّن هذا الأسلوب أن سؤالهم إنما أرادوا به الكناية عن انتفاء وقوعه .
وفي هذا الجواب تعريض بالتهديد فكان مطابقاً للمقصود من الاستفهام ، ولذلك زيد في الجواب كلمة { لكم } إشارة إلى أن هذا الميعاد منصرف إليهم ابتداء .
وضمير جمع المخاطب في قوله : { إن كنتم صادقين } إما للرسول صلى الله عليه وسلم باعتبار أن معه جماعة يخبرون بهذا الوعد ، وإما الخطاب موجه للمسلمين .
وإسم الإِشارة في هذا الوعد للاستخفاف والتحقير كقول قيس بن الخطيم
متى يأت هذا الموت لا يلف حاجة *** لنفسيَ إلا قد قضيتُ قضاءها
وجواب : { كنتم صادقين } دل عليه السؤال ، أي إن كنتم صادقين فعيِّنُوا لنا ميقات هذا الوعد . وهذا كلام صادر عن جهالة لأنه لا يلزم من الصدق في الإِخبار بشيء أن يكون المخبِر عالماً بوقت حصوله ولو في المضيّ فكيف به في الاستقبال .
وخولف مقتضى الظاهر في الجواب من الإِتيان بضمير الوعد الواقع في كلامهم إِلى الإِتيان باسم ظاهر وهو { ميعاد يوم } لما في هذا الاسم النكرة من الإِبهام الذي يوجه نفوس السامعين إلى كل وجه ممكن في محمل ذلك ، وهو أن يكون يومَ البعث أو يوماً آخر يحلّ فيه عذاب على أيمة الكفر وزعماء المشركين وهو يوم بدر ولعل الذين قتلوا يومئذٍ هم أصحاب مقالة { متى هذا الوعد إن كنتم صادقين } وأفاد تنكير { يوم } تهويلاً وتعظيماً بقرينة المقام .
والميعاد : مصدر ميمي للوعد فإضافته إلى ظرفه بيانية . ويجوز كونه مستعملاً في الزمان وإضافته إلى اليوم بيانية لأن الميعاد هو اليوم نفسه .
وجملة { لا تستأخرون عنه ساعة } إمّا صفة ل { ميعاد } وإما حال من ضمير { لكم } .
والاستئخار والاستقدام مبالغة في التأخر والتقدم مثل : استحباب ، فالسين والتاء للمبالغة .
وقدم الاستئخار على الاستقدام إيماء إلى أنه مِيعاد بَأس وعذاب عليهم من شأنه أن يتمنوا تأخره ، ويكون { ولا تستقدمون } تتميماً لتحققه عند وقته المعيّن في علم الله .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{قل لكم ميعاد} ميقات في العذاب {يوم لا تستأخرون عنه} عن الميعاد {ساعة ولا تستقدمون} يعني لا تتباعدون عنه ولا تتقدمون.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
قال الله لنبيه:"قُلْ" لهم يا محمد:"لَكُمْ "أيها القوم "مِيعادُ يَوْمٍ" هو آتيكم، "لا تَسْتأْخِرُونَ عَنْهُ" إذا جاءكم "ساعَةً"، فتنظروا للتوبة والإنابة، "وَلا تسْتَقدِمونَ" قبله بالعذاب، لأن الله جعل لكم ذلك أجلاً...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
الواجب على كل مسؤول، إذا كان سائله يسأله سؤال استهزاء أن يجيبه جواب ما يجاب المسترشد لا ما يجاب المستهزئ، ولا يدع علمه وحكمته لسَفه السفيه ولا لهُزء الهازئ.
{لا تستأخرون عنه ساعة ولا تستقدمون} إن كان على طلب التأخير وطلب التقديم ففيه تعيير وتوبيخ لهم، كأنه يقول: ليس لكم من الخطر والقدر والمنزلة ما يؤخر لكم ما تستأخرون أو يقدم لكم ما تستقدمون.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
فإن قلت: كيف انطبق هذا جواباً على سؤالهم؟ قلت: ما سألوا عن ذلك وهم منكرون له إلاّ تعنتاً ولا استرشاداً، فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقاً لمجيء السؤال على سبيل الإنكار والتعنت، وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم، فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدّماً عليه...
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
وأضاف الميعاد إلى اليوم تجوزاً من حيث كان فيه، وتحتمل الآية أن يكون استعجال الكفرة لعذاب الدنيا، ويكون الجواب عن ذلك أيضاً، ولم يجر للقيامة ذكر على هذا التأويل...
مدارك التنزيل وحقائق التأويل للنسفي 710 هـ :
لا يمكنكم التأخر عنه بالاستمهال ولا التقدم إليه بالاستعجال...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
لكم ميعاد مؤجل معدود محرر، لا يزداد ولا ينتقص، كما قال تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4]، وقال {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 104، 105].
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{قل لكم} أيها الجامدون الأجلاف الذين لا يجوزون الممكنات، ولا يتدبرون ما أوضحها من الدلالات، مع ضعفهم عن الدفاع، والمغالبة والامتناع.
{ميعاد يوم} أي لا تحتمل العقول وصف عظمه لما يأتي فيه من العقاب سواء كان يوم الموت أو البعث.
ولما كان تعلق النفوس بالمهلة عظيماً، قال: {لا تستأخرون} أي لا يوجد تأخركم ولا يمكن أن يطلب لحثيث الطلب وتعذر الهرب.
{عنه ساعة} لأن الآتي به عظيم القدرة محيط العلم، ولذلك قال: {ولا تستقدمون} أي لا يوجد تقدمكم لحظة فما دونها ولا تتمكنون من طلب ذلك.
إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود 982 هـ :
{قُل لكُم ميعَادُ يَوْمٍ} أي وعدُ يومٍ أو زمانٍ وعدٍ، والإضافة للتبيِّينِ، وقرئ ميعادٌ يومٌ منَّونينِ على البدل ويوماً بإضمارِ أعني للتَّعظيم.
{لاَّ تَسْتَأَخِرُونَ عَنْهُ} عند مفاجأتِه {سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ} صفةً لميعادُ وفي هذا الجواب من المبالغةِ في التَّهديدِ ما لا يخفى حيثُ جعل الاستئخارَ في الاستحالةِ كالاستقدامِ الممتنعِ عقلاً.
ويجوزُ أنْ يكونَ نفيُ الاستئخار والاستقدامِ غيرَ مقيَّدٍ بالمُفاجأة فيكون وصفُ الميعادِ بذلك لتحقيقِه وتقريرِه...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وكل ميعاد يجيء في أجله الذي قدره الله له، لا يستأخر لرغبة أحد، ولا يستقدم لرجاء أحد، وليس شيء من هذا عبثاً ولا مصادفة؛ فكل شيء مخلوق بقدر،وكل أمر متصل بالآخر، وقدر الله يرتب الأحداث والمواعيد والآجال وفق حكمته المستورة التي لا يدركها أحد من عباده إلا بقدر ما يكشف الله له.
والاستعجال بالوعد والوعيد دليل على عدم إدراك هذه الحقيقة الكلية، ومن ثم فإن أكثر الناس لا يعلمون. وعدم العلم يقودهم إلى السؤال والاستعجال.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
وجملة {قل لكم ميعاد يوم} إلى آخرها مسوقة مساق الجواب عن مقالتهم ولذلك فصلت ولم تعطف، على طريقة حكاية المحاورات في القرآن، وهذا الجواب جرى على طريقة الأسلوب الحكيم، أي أن الأهم للعقلاء أن تتوجه هممهم إلى تحقق وقوع الوعد في الوقت الذي عينه الله له، وأنه لا يؤخره شيء ولا يقدمه.
وحسَّن هذا الأسلوب أن سؤالهم إنما أرادوا به الكناية عن انتفاء وقوعه، وفي هذا الجواب تعريض بالتهديد فكان مطابقاً للمقصود من الاستفهام، ولذلك زيد في الجواب كلمة {لكم} إشارة إلى أن هذا الميعاد منصرف إليهم ابتداء.
وخولف مقتضى الظاهر في الجواب من الإِتيان بضمير الوعد الواقع في كلامهم إِلى الإِتيان باسم ظاهر وهو {ميعاد يوم} لما في هذا الاسم النكرة من الإِبهام الذي يوجه نفوس السامعين إلى كل وجه ممكن في محمل ذلك، وهو أن يكون يومَ البعث أو يوماً آخر يحلّ فيه عذاب على أيمة الكفر وزعماء المشركين وهو يوم بدر، ولعل الذين قتلوا يومئذٍ هم أصحاب مقالة {متى هذا الوعد إن كنتم صادقين}
وأفاد تنكير {يوم} تهويلاً وتعظيماً بقرينة المقام.
والميعاد: مصدر ميمي للوعد فإضافته إلى ظرفه بيانية، ويجوز كونه مستعملاً في الزمان وإضافته إلى اليوم بيانية لأن الميعاد هو اليوم نفسه.
وجملة {لا تستأخرون عنه ساعة} إمّا صفة ل {ميعاد} وإما حال من ضمير
والاستئخار والاستقدام مبالغة في التأخر والتقدم مثل: استحباب، فالسين والتاء للمبالغة، وقدم الاستئخار على الاستقدام إيماء إلى أنه مِيعاد بَأس وعذاب عليهم من شأنه أن يتمنوا تأخره، ويكون {ولا تستقدمون} تتميماً لتحققه عند وقته المعيّن في علم الله.
والساعة: حصة من الزمن، وتنكيرها للتقليل بمعونة المقام...
ثم يأمر الله تعالى نبيه أنْ يرد عليهم: {قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ} هو يوم النصر عليهم، كما في يوم بدر، حيث أذاقهم الله الذلة والهوان والموت، وقضى على جبروتهم، أو هو يوم القيامة.
والذي ضرب لكم هذا الميعاد هو القادر على إنفاذه، وليست هناك قوة تمنعه سبحانه أنْ يفي بما وعد، أو حتى يُؤخِّره لحظة واحدة، وهو سبحانه العليم بأن الآيات الكونية لا تشذّ عما أراد سبحانه.
وسبق أن بينَّا أن البشر حين يَعِدُون لا يملكون أسباب الوفاء بوعودهم، لذلك علَّمنا ربنا -عز وجل- أن نحتاط لذلك؛ فقال سبحانه:
{وَلاَ تَقُولَنَّ لِشَاْىءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً * إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ..} [الكهف: 23-24].
لأن الله يحب لعبده أن يكون صادقاً، فحين يعلق فِعْله على مشيئة الله يُعْفِي نفسه من الكذب وإخلاف الوعد حين عدم الوفاء خاصة، وهو لا يملك عنصراً واحداً من عناصره، إذن: اطرح المسألة على مَنْ يملك كل هذه العناصر؛ لذلك نُسمِّي الوعد من الناس وَعْداً ومن الله الوعد الحق يعني: الذي لا يتخلف أبداً.
ومعنى {لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ} أنه ميعاد مضبوط، وكان الحق سبحانه يريد بذلك أنْ يستقبل الإنسانُ كلَّ المعطيات التي منحه الله، وأنْ تظل دائماً في ذهنه لا يغفل عنها.
وجاء (يَوْمٍ) نكرة مبهمة، والإبهام هنا هو عَيْن البيان، كما سبق أنْ أوضحنا، فحين يبهم اللهُ مثلاً أجلَ الإنسان يظل دائماً متذكراً له، ينتظره في أي وقت، ويتوقعه في كل نفَس، وفي كل لحظة دون أنْ يربطه بمرض أو غيره، فالموت من دون أسباب هو السبب.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ إخفاء تاريخ قيام الساعة حتّى على شخص الرّسول الأكرم (صلى الله عليه
وآله) كما أسلفنا لأنّ الله سبحانه وتعالى أراد لعباده نوعاً من حرية العمل مقترنة بحالة من التهيّؤ الدائم، لأنّه لو كان تأريخ قيام القيامة معلوماً فإنّ الجميع سيغطّون في الغفلة والغرور والجهل حينما يكون بعيداً عنهم، أمّا حين اقترابه منهم فستكون أعمالهم ذات جنبة اضطرارية، وفي كلتا الحالتين تتحجّم الأهداف التربوية للإنسان، لذا بقي تأريخ القيامة مكتوماً،... وعبّر عن ذلك المعنى بلطف ما ورد في الآية (15) من سورة طه (إنّ الساعة لآتية أكاد اُخفيها لتجزي كلّ نفس بما