ثم أرشدهما - سبحانه - إلى الوجهة التى يتوجهان إليها فقال : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } .
أى : اذهبا إلى فرعون لتبلغاه دعوتى ، ولتأمراه بعبادتى ، فإنه قد طغى وتجاوز حدوده ، وأفسد فى الأرض ، وقال لقومه : أنا ربكم الأعلى . وقال لهم - أيضا - ما علمت لكم من إله غيرى .
قال الجمل : وقوله : { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ } جمعهما فى صيغة أمر الحاضر مع أن هارون لم يكن حاضرا محل المناجاة بل كان فى ذلك الوقت بمصر - للتغليب فغلب الحاضر على غيره ، وكذا الحال فى صيغة النهى . أى : قوله { وَلاَ تَنِيَا } روى أنه - تعالى - أوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى - عليه السلام - وقيل : سمع بإقباله فتلقاه . .
اذْهَبْ أنْتَ وأخُوكَ هارون بِآياتي يقول : بأدلتي وحججي ، اذهبا إلى فرعون بها إنه تمرّد في ضلاله وغيه ، فأبلغه رسالاتي " وَلا تَنِيا فِي ذِكْري " يقول : ولا تضعفا في أن تذكراني فيما أمرتكما ونهيتكما ، فإن ذكركما إيّاي يقوّي عزائمكما ، ويثبت أقدامكما ، لأنكما إذا ذكرتماني ، ذكرتما مَنّي عليكما نِعَما جمّة ، ومِنَنا لا تحصى كثرة . يقال منه : وَنى فلان في هذا الأمر ، وعن هذا الأمر : إذا ضعف ، وهو يَنِي وَنْيا كما قال العجاج :
فَمَا وَنى مُحَمّدٌ مُذْ أنْ غَفَرْ *** لَهُ الإلهُ ما مَضَى وَما غَبَرْ
وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا عبد الله ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : " وَلا تَنِيا " يقول : لا تبطئا .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله " وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي " يقول : ولا تضعفا في ذكري .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : " وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي " قال : لا تضعفا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، عن مجاهد " تَنيا " : تضعفا .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قَتادة ، قوله : " وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي " يقول : لا تضعفا في ذكري .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة ، في قوله : " وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي " قال : لا تضعفا .
حُدثت عن الحسين ، قال : سمعت أبا مُعاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : " وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي " يقول : لا تضعفا .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : " وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي " قال : الواني : هو الغافل المفرط ، ذلك الواني .
يجوز أن يكون انتقال إلى خطاب موسى وهارون . فيقتضي أن هارون كان حاضراً لهذا الخطاب ، وهو ظاهر قوله بعده { قالا ربنا إننا نخاف } [ طه : 45 ] ، وكان حضور هارون عند موسى بوحي من الله أوحاه إلى هارون في أرض « جاسان » حيث منازل بني إسرائيل من أرض قرب ( طِيبة ) . قال في التّوراة في الإصحاح الرابع من سفر الخروج « وقال ( أي الله ) ها هو هارون خارجاً لاستقبالك فتكلمه أيضاً » . وفيه أيضاً « وقال الرب لهارون اذهب إلى البرية لاستقبال موسى فذهب والتقيا في جبل الله » أي جبل حُوريب ، فيكون قد طُوي ما حدث بين تكليم الله تعالى موسى في الوادي عند النار وما بين وصول موسى مع أهله إلى جبل ( حوريب ) في طريقِه إلى أرض مصر ، ويكون قوله { قالا ربنا إننا نخاف } الخ ، جواباً عن قول الله تعالى لهما : { اذهب إلى فرعون الخ . ويكون فصل جملة قالا ربنا إننا نخاف الخ لوقُوعها في أسلوب المحاورة .
ويجوز أن تكون جملة اذْهَبَا إلى فِرْعَونَ } بدلاً من جملة { اذْهَب أنتَ وأخوك } [ طه : 42 ] ، فيكون قوله { اذهبا } أمراً لموسى بأن يذهب وأن يأمر أخاه بالذهاب معه وهارون غائب ، وهذا أنسب لسياق الجُمل ، وتكون جملة قالا ربنا إننا نخاف مستأنفة استئنافاً ابتدائياً ، وقد طوي ما بين خطاب الله موسى وما بين حكاية قالا ربنا إننا نخاف الخ . والتقدير : فذهب موسى ولقي أخاه هارون ، وأبلغه أمر الله له بما أمره ، فقالا ربّنا إننا نخاف الخ .
وجملة { إنَّهُ طغى } تعليل للأمر بأن يذهبا إليه . فعُلم أنه لقصد كفّه عن طغيانه .
وفعل { طغى } رسم في المصحف آخره ألفاً مُمالة ، أي بصورة الياء للإشارة إلى أنّه من طَغِي مثل رَضي . ويجوز فيه الواو فيقال : يطغو مثل يدعو .