وقوله - سبحانه - : { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد . . . } بيان لسنة الله - تعالى - الجارية مع رسله - عليهم الصلاة والسلام - .
أى : ثم صدقنا هؤلاء الرسل ما وعدناهم به من جعل العاقبة لهم { فَأَنجَيْنَاهُمْ } من العذاب الذى أنزلناه بأعدائهم . وأنجينا معهم { مَن نَّشَآءُ } إنجاءهم من المؤمنين بهم .
{ وَأَهْلَكْنَا المسرفين } الذين تجاوزوا الحدود فى كفرهم وتطاولهم على الرسل الكرام ، وإعراضهم عن دعوتهم .
وإلى هنا نرى الآيات الكريمة من أول السورة إلى هنا ، قد أنذرت الناس باقتراب يوم الحساب ، وحذرتهم من الغفلة عنه ، ومن الإعراض عن الاستعداد له بالإيمان والعمل الصالح ، وحكت ما قاله المشركون من تهم باطلة تتعلق بالرسول - صلى الله عليه وسلم - وبما جاء به من عند ربه - تعالى - وردت عليها بما يزهقها ، ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون .
تلك سنة الله في اختيار الرسل . ومثلها سنته في إنجائهم ومن معهم ، وإهلاك المسرفين الظالمين المكذبين :
( ثم صدقناهم الوعد ، فأنجيناهم ومن نشاء ، وأهلكنا المسرفين ) . .
فهي كذلك سنة جارية كسنة اختيارهم . وقد وعدهم الله النجاة هم والمؤمنون معهم إيمانا حقيقيا يصدقه العمل ؛ فصدقهم وعده ، وأهلك ، الذين كانوا يسرفون عليهم ، ويتجاوزون الحد معهم .
القول في تأويل قوله تعالى : { ثُمّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نّشَآءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرفِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ثم صدقنا رسلنا الذين كذبتهم أممهم وسألتهم الاَيات ، فأتيناهم ما سألوه من ذلك ثم أقاموا على تكذيبهم إياها ، وأصرّوا على جحودهم نبوّتها بعد الذي أتتهم به من آيات ربها ، وعدَنا الذي وعدناهم من الهلاك على إقامتهم على الكفر بربهم بعد مجيء الاَية التي سألوا . وذلك كقوله جلّ ثناؤه : فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فإنّي أُعَذّبُهُ عَذَابا لا أُعَذّبُهُ أحَدا مِنَ العالَمِينَ وكقوله : وَلا تَمَسّوها بِسُوءٍ فَيَأْخْذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ ونحو ذلك من المواعيد التي وعد الأمم مع مجيء الاَيات . وقوله : فَأَنْجَيْناهُمْ يقول تعالى ذكره : فأنجينا الرسل عند إصرار أممها على تكذيبها بعد الاَيات ، وَمَنْ نَشاءُ وهم أتباعها الذين صدّقوها وآمنوا بها . وقوله » : وأهْلَكنا المسْرِفِينَ يقول تعالى ذكره » : وأهلكنا الذين أسرفوا على أنفسهم بكفرهم بربهم ، كما :
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وأهلَكْنا المُسْرِفِين والمسرفون : هم المشركون .
{ ثم } عاطفة الجملة على الجمل السابقة فهي للترتيب الرتبي . والمعنى : وأهَمُّ مما ذكر أنّا صدقناهم الوعد فأنجيناهم وأهلكنا الذين كذبوهم . ومضمون هذا أهم في الغرضين التبشير والإنذار . فالتبشيرُ للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بأن الله صادِقُه وعده من النصر ، والإنذارُ لمَن ماثَل أقوامَ الرسل الأولين .
والمراد بالوعد وعدم النصرَ على المكذبين بقرينة قوله تعالى { فأنجيناهم } المُؤذنِ بأنه وعد عذاببٍ لأقوامهم ، فالكلام مسوق مساق التنويه بالرسل الأولين ، وهو تعريض بوعيد الذين قالوا { فليأتنا بآية كما أرسل الأولون } [ الأنبياء : 5 ] . وفي هذا تقريع للمشركين ، أي إنْ كان أعجبكم ما أتى به الأولون فسألتم من رسولكم مثله فإن حالكم كحال الذين أرسلوا إليهم فترقبوا مثلَ ما نزل بهم ويترقب رسولكم مثل ما لقي سلفه . وهذا كقوله تعالى : { قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين في سورة } [ يونس : 102 ] وانتصب الوعد ب { صدقناهم } على التوسع بنزع حرف الجر . وأصل الاستعمال أن يقال : صدقناهم في الوعد ، لأن ( صدَق ) لا يتعدى إلا إلى مفعول واحدٍ . وهذا الحذف شائع في الكلام ومنه في مثل هذا ما في المثل « صَدقَني سِنَّ بَكْرِه »
والإتيان بصيغة المستقبل في قوله تعالى { من نشاء } احتباك ، والتقدير : فأنجيناهم ومَن شئنا ونُنْجِي رسولنا ومن نشاء منكم ، وهو تأميل لهم أن يؤمنوا لأن من المكذبين يوم نزول هذه الآية مَن آمنوا فيما بعد إلى يوم فتح مكة .
وهذا من لطف الله بعباده في ترغيبهم في الإيمان ، ولذلك لم يقل : ونهلك المسرفين ، بل عاد إلى صيغة المضي الذي هو حكاية لما حلّ بالأمم السالفة وبقي المقصود من ذكر الذين أهلكوا وهو التعريض بالتهديد والتحذير أن يصيبهم مثل ما أصاب أولئك مع عدم التصريح بالوعيد .
والمسرفون : المفْرِطون في التكذيب بالإصرار والاستمرار عليه حتى حل بهم العذاب .