ثم حذرهم - سبحانه - من مخالفة أمره ، بأن بين لهم بأنه - سبحانه - لا يخفى عليه شئ ، من أمرهم ، فقال : { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً } بأن تظهروه على ألسنتكم { أَوْ تُخْفُوهُ } بأن تضمروه فى قلوبكم ، فإنه فى الحالين لا يعزب عن علمنا ، وسنحاسبكم عليه ، { فَإِنَّ الله } - تعالى - { كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } بحيث لا يخفى عليه شئ ، فى الارض ولا فى السماء .
هذا وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة التى تسمى بآية الحجاب ، جملة من الأحكام والآداب منها :
1- وجوب الاستئذان عند دخول البيوت لتناول طعام ، ووجوب الخروج بعد تناوله إلا إذا كانت هناك ضرورة تدعو للبقاء ، كما أن من الواجب الحضور إلى الطعام فى الوقت المناسب له ، وليس قبله انتظارا لنضجه وتقديمه .
2- حرمة الاختلاط بين الرجال والنساء سواء أكان ذلك فى الطعام أم فى غيره ، فقد أمر - سبحانه - المؤمنين ، إذا سألوا أزواج النبى صلى الله عليه وسلم شيئا أن يسألوهن من وراء حجاب ، وعلل ذلك بأن سؤالهن بهذه الطريقة ، يؤدى إلى طهارة القلوب ، وعفة النفوس ، والبعد عن الريبة وخواطر السوء . .
وحكم نساء المؤمنين فى ذلك كحكم أمهات المؤمنين ، لأن قوله - سبحانه - { ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } علة عامة تدل على تعميم الحكم ، إذ جميع الرجال والنساء فى كل زمان ومكان فى حاجة إلى ما هو أطهر للقلوب ، وأعف للنفوس . .
قال بعض العلماء ما ملخصه : وقوله : { ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } قرينة واضحة على إرادة تعميم الحكم ، إذ لم يقل أحد من العقلاء ، إن غير ازواج النبى صلى الله عليه وسلم لا حاجة بهن إلى أطهرية قلوبهن ، وقلوب الرجال من الريبة منهن .
فالجملة الكريمة فيها الدليل الواضح على أن وجوب الحجاب حكم عام فى جميع النساء . لا خاص بأمهات المؤمنين ، وإن كان أصل اللفظ خاصا بهن ، لأن عموم علته دليل على عموم الحكم فيه . .
3- كذلك أخذ العلماء من هذه الآية أنه لا يجوز للرجل الأجنبى أن يصافح امرأة أجنبية عنه . ولا يجوز له أن يمس شئ من بدنه شيئا من بدنها .
والدليل على ذلك أن النبى صلى الله عليه ولم ثتب عنه أن قال : " إنى لا أصافح النساء " .
والله - تعالى - يقول : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } فيلزمنا أن لا نصافح النساء الأجنبيات اقتداء به صلى الله عليه وسلم .
4- تكريم الله - تعالى - لنبيه صلى الله عليه وسلم ودفاعه عنه ، وإلزام المؤمنين بالعمل على كل ما يرضيه ولا يؤذيه ، وبعدم نكاح أزواجه من بعده أبدا . .
ولا يقف السياق عند هذا الإنذار الهائل ، بل يستطرد إلى تهديد آخر هائل :
( إن تبدوا شيئا أو تخفوه ، فإن الله كان بكل شيء عليما ) . .
وإذن فالله هو الذي يتولى الأمر . وهو عالم بما يبدو وما يخفى ، مطلع على كل تفكير وكل تدبير . والأمر عنده عظيم . ومن شاء فليتعرض . فإنما يتعرض لبأس الله الساحق الهائل العظيم .
القول في تأويل قوله تعالى : { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنّ اللّهَ كَانَ بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيماً } .
يقول تعالى ذكره : إن تظهروا بألسنتكم شيئا أيها الناس من مراقبة النساء ، أو غير ذلك مما نهاكم عنه أو أذى لرسول الله صلى الله عليه وسلم بقول : لأتزوجنّ زوجته بعد وفاته ، أو تخفوه يقول : أو تخفوا ذلك في أنفسكم ، فإن الله كان بكل شيء عليما ، يقول : فإن الله بكل ذلك وبغيره من أموركم وأمور غيركم ، عليم لا يخفى عليه شيء ، وهو يجازيكم على جميع ذلك .
قوله تعالى : { إن تبدوا شيئاً أو تخفوه فإن الله كان بكل شيء عليماً } توبيخ ووعيد لمن تقدم به التعريض في الآية قبلها ممن أشير إليه بقوله { ذلكم أطهر لقلوبكم } [ الأحزاب : 53 ] ومن أشير إليه في قوله { وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله } [ الأحزاب : 53 ] فقيل لهم في هذه إن الله يعلم ما تخفونه من هذه المعتقدات والخواطر المكروهة ويجازيكم عليها .
كلام جامع تحريضاً وتحذيراً ومنبىء عن وعد ووعيد ، فإن ما قبله قد حوى أمراً ونهياً ، وإذ كان الامتثال متفاوتاً في الظاهر والباطن وبخاصة في النوايا والمضمرات كان المقام مناسباً لتنبيههم وتذكيرهم بأن الله مطلع على كل حال من أحوالهم في ذلك وعلى كل شيء ، فالمراد من { شيئاً } الأول شيء مما يبدونه أو يخفونه وهو يعم كل ما يبدو وما يخفى لأن النكرة في سياق الشرط تعم . والجملة تذييل لما اشتملت عليه من العموم في قوله : { بكل شيء } . وإظهار لفظ { شيء } هنا دون إضمار لأن الإِضمار لا يستقيم لأن الشيء المذكور ثانياً هو غير المذكور أولاً ، إذ المراد بالثاني جميع الموجودات ، والمراد بالأول خصوص أحوال الناس الظاهرة والباطنة ، فالله عليم بكل كائن ومن جملة ذلك ما يبدونه ويخفونه من أحوالهم .