محاسن التأويل للقاسمي - القاسمي  
{إِن تُبۡدُواْ شَيۡـًٔا أَوۡ تُخۡفُوهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٗا} (54)

{ إِن تُبْدُوا شَيْئًا } أي مما لا خير فيه ، كنكاحهن على ألسنتكم ، على ما روي عن بعض الجفاة { أَوْ تُخْفُوهُ } أي في نفوسكم { فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا } أي فيجازيكم بما صدر عنكم من المعاصي البادية والخافية لا محالة . وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود ، مزيد تهويل وتشديد ومبالغة في الوعيد .

قال ابن كثير : أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه ، أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده . لأنهن أزواجه في الدنيا والآخرة ، وأمهات المؤمنين . واختلفوا فيمن دخل بها ثم طلقها في حياته . هل يحل لغيره أن يتزوجها ؟ على قولين : مأخذهما هل دخلت هذه في عموم قوله : { من بعده } أم لا ؟ فأما من تزوجها ثم طلقها قبل أن يدخل بها ، فما نعلم في حلها لغيره ، والحالة هذه نزاعا والله أعلم . انتهى .

تنبيه : في ( الإكليل ) : هذه آية الحجاب التي أمر بها أمهات المؤمنين . بعد أن كان النساء لا يحتجبن . وفيها جواز سماع كلامهن ومخاطبتهن ، وفيها تحريم أذى النبي صلى الله عليه وسلم بسائر وجوه الأذى . انتهى .

وقال ابن كثير : هذه آية الحجاب . وفيها أحكام ، وآداب شرعية . وهي مما وافق تنزيلها قول عمر رضي الله عنه ، كما روى البخاري {[6214]} عنه أنه قال : ( يا رسول الله ! يدخل عليك البر والفاجر . فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ! فأنزل الله آية الحجاب ) .

وكان يقول ( لو أطاع فيكن ، ما رأتكن عين ) .

وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، التي تولى الله تزويجها بنفسه تعالى . وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة ( في قول قتادة والواقدي وغيرهما ) وزعم أبو عبيدة ، معمر بن المثنى ، وخليفة بن خياط ؛ أن ذلك في سنة ثلاث . فالله أعلم .

وروى البخاري {[6215]} عن أنس قال : ( لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش ، دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون . فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا . فلما رأى ذلك قام . فلما قام ، قام من قام وقعد ثلاثة نفر . فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل فإذا القوم جلوس . ثم إنهم قاموا فانطلقوا فجئت أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا . فجاء حتى دخل . فذهبت أدخل ، فألقى الحجاب بيني وبينه ، فأنزل الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ } الآية ) .

ورواه مسلم {[6216]} أيضا والنسائي .

وعن أنس أيضا قال : ( بني على النبي صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، بخبز ولحم فأرسلت على الطعام داعيا . فيجيء قوم فيأكلون ويخرجون ، ثم يجيء قوم فيأكلون ويخرجون فدعوت حتى ما أجد أحدا أدعو . فقلت : يا رسول الله ! ما أجد أحدا أدعوه . قال : ارفعوا طعامكم . وبقي ثلاثة رهط يتحدثون في البيت . فخرج النبي صلى الله عليه وسلم ، فانطلق إلى حجرة عائشة رضي الله عنها فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته . قالت : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته . كيف وجدت أهلك ؟ يا رسول الله ! بارك الله لك .

فتقرى حجر نسائه كلهن . يقول لهن كما يقول لعائشة ، ويقلن له كما قالت عائشة . ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم فإذا ثلاثة رهط في البيت يتحدثون . وكان النبي صلى الله عليه وسلم شديد الحياء . فخرج منطلقا نحو حجرة عائشة . فما أدري آخبرته أو أخبر ، أن القوم خرجوا . فرجع ، حتى إذا وضع رجله في أسكفة الباب داخلة ، والأخرى خارجة ، أرخى الستر بيني وبينه ، وأنزلت آية الحجاب ) . انفرد به البخاري {[6217]} .

وأخرج نحوه مسلم والترمذي . كما بسطه ابن كثير .

قال الحافظ ابن حجر في ( الفتح ) : قال عياض : فرض الحجاب مما اختصصن به فهو فرض عليهن بلا خلاف ، في الوجه والكفين ، فلا يجوز لهن كشف ذلك في شهادة ولا غيرها . ولا إظهار شخوصهن وإن كن متسترات ، إلا ما دعت إليه ضرورة من براز . ثم استدل بما في ( الموطأ ) أن حفصة لما توفي عمر سترها النساء عن أن يرى شخصها . وأن زينب بنت جحش جعلت لها القبة فوق نعشها يستر شخصها . انتهى .

وليس فيما ذكر دليل على ما ادعاه من فرض ذلك عليهن . وقد كن بعد النبي صلى الله عليه وسلم يحجن ويطفن . وكان الصحابة ومن بعدهم يسمعون منهن الحديث ، وهن متسترات الأبدان لا الأشخاص . وقد تقدم في الحج قول ابن جريج لعطاء ، لما ذكر له طواف عائشة : ( أقبل الحجاب أو بعده ؟ قال قد أدركت ذلك بعد الحجاب ) . انتهى .

ومما يؤيده ما رواه البخاري {[6218]} في التفسير عن عائشة رضي الله عنها . قالت : ( خرجت سودة بعد ما ضرب الحجاب لحاجتها . وكانت امرأة جسيمة ، لا تخفى على من يعرفها . فرآها عمر بن الخطاب . فقال : يا سودة ! أما والله ! ما تخفين علينا . فانظري كيف تخرجين .

قالت : فانكفأت راجعة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي ، وإنه ليتعشى وفي يده عرق ، فدخلت فقالت : يا رسول الله ! إني خرجت لبعض حاجتي ، فقال لي عمر كذا وكذا . قالت فأوحى الله إليه ثم رفع عنه ، وإن العرق في يده ما وضعه ، فقال : إنه قد أذن لكن أن تخرجن لحاجتكن ) .

قال الكرماني : فإن قلت وقع هنا أنه كان بعدما ضرب الحجاب وفي الوضوء – أي من البخاري – أنه كان قبل الحجاب . فالجواب لعله وقع مرتين .

قال ابن حجر : قلت بل المراد بالحجاب الأول غير الحجاب الثاني .

والحاصل أن عمر رضي الله عنه وقع في قلبه نفرة من اطلاع الأجانب على الحريم النبوي ، حتى صرح بقوله له عليه الصلاة والسلام : ( احجب نساءك ) ، وأكد ذلك إلى أن نزلت آية الحجاب . ثم قصد بعد ذلك أن لا يبدين أشخاصهن أصلا ، ولو كن متسترات ، فبالغ في ذلك فمنع منه ، وأذن لهن في الخروج لحاجتهن ، دفعا للمشقة ، ورفعا للحرج ، انتهى بحروفه . وإنما نقلنا الجمع بين الروايتين ، مع أن الأمس به شرح ( الصحيح ) ، لما اتفق من نقل كثير من المفسرين إحدى الروايتين ونقل آخرين الثانية ، مما يوقع الواقع في شبهه الاختلاف ، فآثرنا توسيع الكلام لتحقيق المقام . زادنا الله من فضله علما ، إنه هو العليم العلام .


[6214]:أخرجه في: 65 – كتاب التفسير، 33 سورة الأحزاب، 8 – باب قوله: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم}، حديث رقم 267.
[6215]:أخرجه في: 65 – كتاب التفسير، 33 سورة الأحزاب، 8 – باب قوله: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم}، حديث رقم 2035.
[6216]:أخرجه في: 16 كتاب النكاح، حديث 87 م (طبعتنا).
[6217]:أخرجه في: 65 – كتاب التفسير، 33 سورة الأحزاب، 8 – باب قوله: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم}، حديث رقم 2035.
[6218]:أخرجه في: 65 كتاب التفسير، 33 – سورة الأحزاب، 8 – باب قوله: {لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام}، حديث رقم 123.