{ إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا } أي : إلا كلاما طيبا ، وذلك لأنها دار الطيبين ، ولا يكون فيها إلا كل طيب ، وهذا دليل على حسن أدب أهل الجنة في خطابهم فيما بينهم ، وأنه أطيب كلام ، وأسره للنفوس{[965]} وأسلمه من كل لغو وإثم ، نسأل الله من فضله .
قوله - تعالى - : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } تتميم للنعم التى أنعم - سبحانه - عليهم بها فى الجنة .
واللغو : الكلام الساقط الذى لا فائدة منه ، ولا وزن له . يقال : لغا فلان يلغو . إذا قال كلاما يلام عليه .
والتأثيم : مصدر إثم ، إذا نسب غيره إلى الإثم وفعل ما لا يليق .
أى : أن هؤلاء المقربين لا يسمعون فى الجنة كلاما لا يعتد به ، ولا يسمعون - أيضا - كلاما سيئا أو قبيحا ، بأن ينسب بعضهم إلى بعض ما لا يليق به ، وإنما الذى يسمعونه هو الكلام الطيب المشتمل على الأمان المتكرر ، والتحية الدائمة .
ولفظ { سَلاَماً } الأول ، بدل من قوله { قِيلاً } أو نعت له . . . أى : سالما من العيوب . والتكرير لهذا اللفظ القصد منه التأكيد ، والإشعاربكثرة تحيتهم بهذا اللفظ الدال على المحبة والوئام .
أى : لا يسمعون فى الجنة إلا سلاما إثر سلام ، وتحية فى أعقاب تحية ، ومودة تتلوها مودة .
والاستثناء منقطع ، لأن السلام لا يندرج تحت اللغو ، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الذم ، و { قِيلاً } بمعنى : قولا ، وهو منصوب على الاستثناء . .
وإلى هنا نجد الآيات الكريمة ، قد بينت أقسام الناس يوم القيامة ، وفصلت ما أعده - سبحانه - للسابقين ، من عطاء جزيل ، وفضل عميم .
وقوله : إلاّ قِيلاً سَلاما سّلاما يقول : لا يسمعون فيها من القول إلا قيلاً سلاما : أي أسلم مما تكره . وفي نصب قوله : سَلاما سَلاما وجهان : إن شئت جعلته تابعا للقيل ، ويكون السلام حينئذٍ هو القيل ، فكأنه قيل : لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما ، إلا سلاما سلاما ، ولكنهم يسمعون سلاما سلاما . والثاني : أن يكون نصبه بوقوع القيل عليه ، فيكون معناه حينئذٍ : إلا قيلَ سلامٍ فإن نوّن نصب قوله : سَلاما سَلاما بوقوع قِيلٍ عليه .
و : { قيلاً } مستثنى ، والاستثناء متصل ، وقال قوم : هو منقطع . و : { سلاماً } نعت للقيل ، كأنه قال : إلا { قيلاً } سالماً من هذه العيوب وغيرها . وقال أبو إسحاق الزجاج أيضاً { سلاماً } مصدر ، وناصبه { قيلاً } كأنه يذكر أنهم يقول بعضهم لبعض { سلاماً سلاماً } . وقال بعض النحاة { سلاماً } منتصب بفعل مضمر تقديره : أسلموا سلاماً .
وأتبع ذكر هذه النعمة بذكر نعمة أخرى من الأنعام بالمسموع الذي يفيد الكرامة لأن الإِكرام لذة رُوحية يُكسب النفس عزة وإدلالاً بقوله : { إلا قيلاً سلاماً سلاماً } . وهو استثناء من { لغواً و تأثيماً } بطريقة تأكيد الشيء بما يشبه ضده المشتهر في البديع باسم تأكيد المدح لما يشبه الذم ، وله موقع عظيم من البلاغة كقوله النابغة :
ولا عيب فيهم غيرَ أنّ سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
فالاستثناء متصل إدعاءً وهو المعبر عنه بالاستثناء المنقطع بحسب حاصل المعنى ، وعليه فإن انتصاب { قيلاً } على الاستثناء لا على البدلية من { لغواً } .
و { سلاماً } الأول مقول { قيلاً } أي هذا اللفظ الذي تقديره : سَلمنا سَلاماً ، فهو جملة محكية بالقول .
و { سلاماً } الثاني تكرير ل { سلاماً } الأول تكريراً ليس للتأكيد بل لإِفادة التعاقب ، أي سلاماً إثر سلام ، كقوله تعالى : { كلا إذا دكت الأرض دَكَّاً دَكاً } [ الفجر : 21 ] وقولهم : قرأت النحو باباً باباً ، أو مشاراً به إلى كثرة المسلِّمين فهو مؤذن مع الكرامة بأنهم معظمون مبجلون ، والفرق بين الوجهين أن الأول يفيد التكرير بتكرير الأزمنة ، والثاني يفيد التكرار بتكرار المسلِّمين .
وهذا القيل يتلقونه من الملائكة الموكلين بالجنة ، قال تعالى : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم } [ الرعد : 23 ، 24 ] ويتلقاه بعضهم من بعض كما قال تعالى : { وتحيتهم فيها سلام } [ يونس : 10 ] .
وإنما جيء بلفظ : { سلاماً } منصوباً دون الرفع مع كون الرفع أدل على المبالغة كما ذكروه في قوله : { قالوا سَلاماً قال سلام } في سورة هود ( 69 ) وسورة الذاريات ( 25 ) لأنه أريد جعله بدلاً من { قيلاً } .