التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور  
{إِلَّا قِيلٗا سَلَٰمٗا سَلَٰمٗا} (26)

وأتبع ذكر هذه النعمة بذكر نعمة أخرى من الأنعام بالمسموع الذي يفيد الكرامة لأن الإِكرام لذة رُوحية يُكسب النفس عزة وإدلالاً بقوله : { إلا قيلاً سلاماً سلاماً } . وهو استثناء من { لغواً و تأثيماً } بطريقة تأكيد الشيء بما يشبه ضده المشتهر في البديع باسم تأكيد المدح لما يشبه الذم ، وله موقع عظيم من البلاغة كقوله النابغة :

ولا عيب فيهم غيرَ أنّ سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب

فالاستثناء متصل إدعاءً وهو المعبر عنه بالاستثناء المنقطع بحسب حاصل المعنى ، وعليه فإن انتصاب { قيلاً } على الاستثناء لا على البدلية من { لغواً } .

و { سلاماً } الأول مقول { قيلاً } أي هذا اللفظ الذي تقديره : سَلمنا سَلاماً ، فهو جملة محكية بالقول .

و { سلاماً } الثاني تكرير ل { سلاماً } الأول تكريراً ليس للتأكيد بل لإِفادة التعاقب ، أي سلاماً إثر سلام ، كقوله تعالى : { كلا إذا دكت الأرض دَكَّاً دَكاً } [ الفجر : 21 ] وقولهم : قرأت النحو باباً باباً ، أو مشاراً به إلى كثرة المسلِّمين فهو مؤذن مع الكرامة بأنهم معظمون مبجلون ، والفرق بين الوجهين أن الأول يفيد التكرير بتكرير الأزمنة ، والثاني يفيد التكرار بتكرار المسلِّمين .

وهذا القيل يتلقونه من الملائكة الموكلين بالجنة ، قال تعالى : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم } [ الرعد : 23 ، 24 ] ويتلقاه بعضهم من بعض كما قال تعالى : { وتحيتهم فيها سلام } [ يونس : 10 ] .

وإنما جيء بلفظ : { سلاماً } منصوباً دون الرفع مع كون الرفع أدل على المبالغة كما ذكروه في قوله : { قالوا سَلاماً قال سلام } في سورة هود ( 69 ) وسورة الذاريات ( 25 ) لأنه أريد جعله بدلاً من { قيلاً } .