مفاتيح الغيب للرازي - الفخر الرازي  
{إِلَّا قِيلٗا سَلَٰمٗا سَلَٰمٗا} (26)

المسألة الرابعة : { إلا قيلا } استثناء متصل منقطع ، فنقول : فيه وجهان ( أحدهما ) وهو الأظهر أنه منقطع لأن السلام ليس من جنس اللغو تقديره لكن يسمعون : ( قيلا سلاما سلاما ) ( ثانيهما ) أنه متصل ووجهه أن نقول : المجاز قد يكون في المعنى ، ومن جملته أنك تقول : مالي ذنب إلا أحبك ، فلهذا تؤذيني فتستثني محبته من الذنب ولا تريد المنقطع لأنك لا تريد بهذا القول بيان أنك تحبه إنما تريد في تبرئتك عن الذنوب ووجهه هو أن بينهما غاية الخلاف وبينهما أمور متوسطة ، مثاله : الحار والبارد وبينهما الفاتر الذي هو أقرب إلى الحار من البارد وأقرب إلى البارد من الحار ، والمتوسط يطلق عليه اسم البارد عند النسبة إلى الحار فيقال : هذا بارد ويخبر عنه بالنسبة إلى البارد فيقال : إنه حار ، إذا ثبت هذا فنقول قول القائل : مالي ذنب إلا أني أحبك ، معناه لا تجد ما يقرب من الذنب إلا المحبة فإن عندي أمورا فوقها إذا نسبتها إلى الذنب تجد بينها غاية الخلاف فيكون ذلك كقوله : درجات الحب عندي طاعتك وفوقها إن أفضل جانب أقل أمر من أمورك على جانب الحفظ لروحي ، إشارة إلى المبالغة كما يقول القائل : ليس هذا بشيء مستحقرا بالنسبة إلى ما فوقه فقوله : { لا يسمعون فيها لغوا } أي يسمعون فيها كلاما فائقا عظيم الفائدة كامل اللذة أدناها وأقربها إلى اللغو قول بعضهم لبعض : سلام عليك فلا يسمعون ما يقرب من اللغو إلا سلاما ، فما ظنك بالذين يبعد منه كما يبعد الماء البارد الصادق والماء الذي كسرت الشمس برودته وطلب منه ماء حار ليس عندي ماء حار إلا هذا أي ليس عندي ما يبعد من البارد الصادق البرودة ويقرب من الحار إلا هذا وفيه المبالغة الفائقة والبلاغة الرائقة وحينئذ يكون اللغو مجازا ، والاستثناء متصلا فإن قيل : إذا لم يكن بد من مجاز وحمل اللغو على ما يقرب منه بالنسبة إليه فليحمل إلا على لكن لأنهما مشتركان في إثبات خلاف ما تقدم ، نقول : المجاز في الأسماء أولى من المجاز في الحروف لأنها تقبل التغير في الدلالة وتتغير في الأحوال ، ولا كذلك الحروف لأن الحروف لا تصير مجازا إلا بالاقتران باسم والاسم يصير مجازا من غير الاقتران بحرف فإنك تقول : رأيت أسدا يرمي ويكون مجازا ولا اقتران له بحرف ، وكذلك إذا قلت لرجل : هذا أسد وتريد بأسد كامل الشجاعة ، ولأن عرض المتكلم في قوله مالي ذنب إلا أني أحبك ، لا يحصل بما ذكرت من المجاز ، ولأن العدول عن الأصل لا يكون له فائدة من المبالغة والبلاغة .

المسألة الخامسة : في قوله تعالى : { قيلا } قولان : أحدهما : إنه مصدر كالقول فيكون قيلا مصدرا ، كما أن القول مصدر لكن لا يظهر له في باب فعل يفعل إلا حرف ( ثانيهما ) إنه اسم والقول مصدر فهو كالسدل والستر بكسر السين اسم وبفتحها مصدر وهو الأظهر ، وعلى هذا نقول : الظاهر أنه اسم مأخوذ من فعل هو : قال وقيل ، لما لم يذكر فاعله ، وما قيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن القيل والقال ، يكون معناه نهى عن المشاجرة ، وحكاية أمور جرت بين أقوام لا فائدة في ذكرها ، وليس فيها إلا مجرد الحكاية من غير وعظ ولا حكمة لقوله صلى الله عليه وسلم : « رحم الله عبدا قال خيرا فغنم ، أو سكت فسلم » وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله ، والقال اسم للقول مأخوذ من قيل لما لم يذكر فاعله ، تقول : قال فلان كذا ، ثم قيل له : كذا ، فقال : كذا ، فيكون حاصل كلامه قيل وقال ، وعلى هذا فالقيل اسم لقول لم يعلم قائله ، والقال مأخوذ من قيل هو قال ، ولقائل أن يقول : هذا باطل لقوله تعالى : { وقيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } فإن الضمير للرسول صلى الله عليه وسلم أي يعلم الله قيل محمد : ( يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ) ، كما قال نوح عليه السلام : { إنك إن تذرهم يضلوا عبادك } ، وعلى هذا فقوله تعالى : { فاصفح عنهم وقل سلام } إرشاد له لئلا يدعو على قومه عند يأسه منهم كما دعا عليهم نوح عنده ، وإذا كان القول مضافا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فلا يكون القيل اسما لقول لم يعلم قائله ؟ فنقول : الجواب عنه من وجهين ( أحدهما ) إن قولنا : إنه اسم مأخوذ من قيل الموضوع لقول لم يعلم قائله في الأصل لا ينافي جواز استعماله في قول من علم بغير الموضوع ( وثانيهما ) وهو الجواب الدقيق أن نقول : الهاء في : { وقيله } ضمير كما في ربه وكالضمير المجهول عند الكوفيين وهو ضمير الشأن ، وعند البصريين قال : { فإنها لا تعمى الأبصار } والهاء غير عائد إلى مذكور ، غير أن الكوفيين جعلوه لغير معلوم والبصريين جعلوه ضمير القصة ، والظاهر في هذه المسألة قول الكوفيين ، وعلى هذا معنى عبارتهم بلغ غاية علم الله تعالى قيل القائل منهم : { يا رب إن هؤلاء } ، إشارة إلى أن الاختصاص بذلك القول في كل أحد إنهم لا يؤمنون لعلمه أنهم قائلون بهذا وأنهم عالمون ، وأهل السماء علموا بأن عند الله علم الساعة يعلمها فيعلم قول من يقول : { يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون } من غير تعيين قول لاشتراك الكل فيه ، ويؤيد هذا أن الضمير لو كان عائدا إلى معلوم فإما أن يكون إلى مذكور قبله ، ولا شيء فيما قبله يصح عود الضمير إليه ، وإما إلى معلوم غير مذكور وهو محمد صلى الله عليه وسلم لكن الخطاب بقوله : { فاصفح } كان يقتضي أن يقول ، وقيلك يا رب لأن محمدا صلى الله عليه وسلم هو المخاطب أولا بكلام الله ، وقد قال قبله : { ولئن سألتهم } وقال من قبل : { قل إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين } وكان هو المخاطب أولا ، إذا تحقق هذا ؟ نقول : إذا تفكرت في استعمال لفظ القيل في القرآن ترى ما ذكرنا ملحوظا مراعى ، فقال هاهنا : { إلا قيلا سلاما سلاما } لعدم اختصاص هذا القول بقائل دون قائل فيسمع هذا القول دائما من الملائكة والناس كما قال تعالى : { والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام } وقال تعالى : { سلام قولا من رب رحيم } حيث كان المسلم منفردا ، وهو الله كأنه قال : سلام قولا منا ، وقال تعالى : { ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا } وقال : { هي أشد وطئا وأقوم قيلا } لأن الداعي معين وهم الرسل ومن اتبعهم من الأمة وكل من قام ليلا فإن قوله : قويم ، ونهجه مستقيم ، وقال تعالى : { وقيله يا رب } لأن كل أحد يقول : إنهم لا يؤمنون . أما هم فلاعترافهم ولإقرارهم وأما غيرهم فلكفر بأنهم بإسرافهم وإصرارهم ، ويؤيد ما ذكرنا أنه تعالى قال : { لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما } والاستثناء المتصل يقرب إلى المعنى بالنسبة إلى غيره وهو قول لا يعرف قائله ، فقال : { إلا قيلا } وهو سلام عليك ، وأما قول من يعرف وهو الله فهو الأبعد عن اللغو غاية البعد وبينهما نهاية الخلاف فقال : { سلام قولا } .

المسألة السادسة : { سلام } ، فيه ثلاثة أوجه ( أحدها ) أنه صفة وصف الله تعالى بها { قيلا } كما يوصف الشيء بالمصدر حيث يقال : رجل عدل ، وقوم صوم ، ومعناه إلا قيلا سالما عن العيوب ، ( وثانيها ) هو مصدر تقديره ، إلا أن يقولوا سلاما ( وثالثها ) هو بدل من { قيلا } ، تقديره : إلا سلاما .

المسألة السابعة : تكرير السلام هل فيه فائدة ؟ نقول : فيه إشارة إلى تمام النعمة ، وذلك لأن أثر السلام في الدنيا لا يتم إلا بالتسليم ورد السلام ، فكما أن أحد المتلاقيين في الدنيا يقول للآخر : السلام عليك ، فيقول الآخر : وعليك السلام ، فكذلك في الآخرة يقولون : { سلاما سلاما } ثم إنه تعالى لما قال : { سلام قولا من رب رحيم } لم يكن له رد لأن تسليم الله على عبده مؤمن له ، فأما الله تعالى فهو منزه عن أن يؤمنه أحد ، بل الرد إن كان فهو قول المؤمن : سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين .

المسألة الثامنة : ما الفرق بين قوله تعالى : { سلاما سلاما } بنصبهما ، وبين قوله تعالى : { قالوا سلاما قال سلام } قلنا : قد ذكرنا هناك أن قوله : ( سلام عليك ) أتم وأبلغ من قولهم سلاما عليك فإبراهيم عليه السلام أراد أن يتفضل عليهم بالذكر ويجيبهم بأحسن ما حيوا ، وأما هنا فلا يتفضل أحد من أهل الجنة على الآخر مثل التفضل في تلك الصورة إذ هم من جنس واحد ، وهم المؤمنون ولا ينسب أحد إلى أحد تقصيرا .

المسألة التاسعة : إذا كان قول القائل : ( سلام عليك ) أتم وأبلغ فما بال القراءة المشهورة صارت بالنصب ، ومن قرأ سلام ليس مثل الذي قرأ بالنصب ، نقول ذلك من حيث اللفظ والمعنى ، أما اللفظ فلأنه يستثنى من المسموع وهو مفعول منصوب ، فالنصب بقوله : { لا يسمعون فيها لغوا } وأما المعنى فلأنا بينا أن الاستثناء متصل ، وقولهم : ( سلام ) أبعد من اللغو من قولهم : ( سلاما ) فقال : { إلا قيلا سلاما } ليكون أقرب إلى اللغو من غيره ، وإن كان في نفسه بعيدا عنه .