ثم انتقلت السورة الكريمة إلى الدليل الرابع على قدرته - تعالى - على البعث والنشور ، فقال - تعالى - : { أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } .
وقوله : { تُورُونَ } أى : توقدون ، من أورى النار إذا قدحها وأوقدها . ويقال : وَرَى الزندُ يَرِى وَرْيًا ، إذا خرجت ناره - وفعله من باب وعى - وأوراه غيره إذا استخرج النار منه .
وقوله : { لِّلْمُقْوِينَ } مأخوذ من أقوى الرجل إذا دخل فى القواء ، وهو الفضاء الخالى من العمران ، والمراد بهم هنا المسافرون ، لأنهم فى معظم الأحيان يسلكون فى سفرهم الصحارى والفضاء من الأرض .
وخصهم - سبحانه - بالذكر ، لأنهم أكثر من غيرهم انتفاعا بالنار ، وأحوج من غيرهم إليها .
والمراد بشجرة النار : المرخ والعفار ، وهما شجرتان ، يقدح غصن إحدهما بغصن الأخرى فتتولد النار منهما بقدرة الله - تعالى - .
ومن أمثال العرب : لكل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار . أى : وعلا على غيرهما المرخ والعفار لأنهما أكثر الشجر نصيبا فى استخراج النار ، فهو مثل يضرب فى تفضيل الشىء على غيره .
والمعنى : وأخبرونى - أيضا - عن النار التى تقدحونها وتستخرجونها من الشجر الرطب الأخضر ، أأنتم خلقتم شجرتها ، واخترعتم أصلها ، أم نحن الخالقون لها وحدنا ؟
لا شك أن الجواب الذى لا جواب غيره ، أننا نحن الذين أنشأنا شجرتها لا أنتم .
ونحن الذين جعلناها تذكرة ، تذكر الناس بها فى دار الدنيا إذا أحسوا بشدة حرارتها ، بنار الآخرة التى هى أشد وأبقى ، حتى يقلعوا عن الأقوال والأفعال التى تؤدى بهم إلى نار الآخرة .
ونحن - أيضا - الذين جعلنا هذه النار { مَتَاعاً } أى منفعة { لِّلْمُقْوِينَ } أى للمسافرين ، والذين هم فى حاجة إليها فى شئونهم المختلفة .
ولكن من الذي أنشأ وقودها ? من الذي أنشأ الشجر الذي توقد به النار ? لقد مر حديث الزرع . والشجر من هذا الزرع . . على أن هناك لفتة أخرى في ذكر( شجرتها ) . فمن احتكاك فرع من شجرة بفرع آخر من شجرة أخرى كان العرب يوقدون نارهم . على الطريقة البدائية التي لا تزال مستعملة في البيئات البدائية حتى الآن . فالأمر أظهر وأقرب إلى تجاربهم المعروفة . أما معجزة النار وسرها عند العلماء الباحثين فهو مجال للبحث والنظر والاهتمام .
وشجرة النار : هي جنس الشجر الذي فيه حُرَّاق ، أي ما يقتدح منه النار وهو شجر الزَّنْد أو الزِّنَاد وأشجار النار كثيرة منها المَرْخ ( بفتح فسكون ) والعَفار ( بفتح العين ) والعُشَر ( بضم ففتح ) والكَلْخ ( بفتح فسكون ) ومن الأمثال « في كل شجر نار ، واستَمْجَدَ المَرْخُ والعفار » أي أكثر من النار .
و { تُورُون } : مضارع أورى الزَّنْد إذا حكَّه بمثله يستخرج منه النار كانوا يضعون عوداً من شجر النار ويحكّونه من أعلاه بعود مثله فتخرج النار من العود الأسفل ويسمى العُودُ الأعلى زَنداً ( بفتح الزاي وسكون النون ) وزناداً ( بكسر الزاي ) ويسمى الأسفل زَندة بهاء تأنيث في آخره ، شبّهوا العود الأعلى بالفحل وشبهوا العود الأسفل بالطروقة وقد تابع ذو الرمة هذا المعنى في وصفه الاقتداح للنار فقال على شبه الإِلغاز :
وسِقطٍ كعين الديك عاورتُ صاحبي *** أبَاهـــا وهيَّأْنا لموقعها وكْرا
مشهَّرة لا تُمكنُ الفحلَ أُمَّهــــا *** إذا نَحن لم نمسك بأطرافها قسرا
وحذف العائد على الموصول لأن ضمير النصب يكثر حذفه من الصلة ، وتقديره : التي تورونها .
وتعدية { تورون } إلى ضمير { النار } تعدية على تقدير مضاف ، أي تورون شجرتها كما دل عليه قوله : { أأنتم أنشأتم شجرتها } ، وقد شاع هذا الحذف في الكلام فقالوا : أورى النار كما قالوا : أورى الزناد .
وجملة { أأنتم أنشأتم شجرتها } الخ بيان لجملة { أفرأيتم النار } الخ كما تقدم في قوله : { أأنتم تخلقونه } [ الواقعة : 59 ] .