وقوله { وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه } معطوف على محل { لِنُسْلِمَ } كأنه قيل أمرنا لنسلم وأمرنا أيضاً بإقامة الصلاة والاتقاء .
وفى تخصيص الصلاة بالذكر من بين أنواع الشرائع وعطفها على الأمر بالإسلام ، وقرنها بالأمر بالتقوى دليل على تفخيم أمرها وعظمة شأنها .
وقوله { وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } جملة مستأنفة موجبة لامتثال ما أمر من الأمور الثلاثة ، أى : هو الذى تعودون إليه يوم القيامة للحساب لا إلى غيره .
وبعد إعلان الاستسلام لرب العالمين تجيء التكاليف التعبدية والشعورية :
( وأن أقيموا الصلاة واتقوه ) .
فالأصل هو الاستسلام لربوبية رب العالمين ، وسلطانه وتربيته وتقويمه . ثم تجيء العبادات الشعائرية ؛ وتجيء الرياضات النفسية . . لتقوم على قاعدة الاستسلام . . فإنها لا تقوم إلا إذا رسخت هذه القاعدة ليقوم عليها البناء .
وفي الإيقاع الأخير في الفقرة يحشد السياق المؤثرات من الحقائق الأساسية في العقيدة : حقيقة الحشر . وحقيقة الخلق . وحقيقة السلطان . وحقيقة العلم بالغيب والشهادة . وحقيقة الحكمة والخبرة . . من خصائص الألوهية ، التي هي الموضوع الرئيسي في هذه السورة :
( وهو الذي إليه تحشرون . وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق . ويوم يقول : كن فيكون . قوله الحق ، وله الملك يوم ينفخ في الصور ، عالم الغيب والشهادة ، وهو الحكيم الخبير ) . .
إن الاستسلام لرب العالمين ضرورة وواجب . . فهو الذي إليه تحشر الخلائق . . فأولى لهم أن يقدموا بين يدي الحشر - الحتمي - ما ينجيهم ؛ وأولى لهم أن يستسلموا اليوم له استسلام العالمين ؛ قبل أن يقفوا أمامه
مسؤولين . . وكذلك يصبح تصور هذه الحقيقة - حقيقة الحشر - موحيا بالاستسلام في المبدأ ، ما دام أنه لا مفر من الاستسلام في المصير !
القول في تأويل قوله تعالى : { وَأَنْ أَقِيمُواْ الصّلاةَ وَاتّقُوهُ وَهُوَ الّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } . .
يقول تعالى ذكره : وأمرنا أن أقيموا الصلاة . وإنما قيل : وأنْ أقِيمُوا الصّلاةَ فعطف ب «أن » على اللام من «لِنُسْلِمَ » لأن قوله : «لنسلم » ، معناه : أن نسلم ، فردّ قوله : وأنْ أقِيمُوا على معنى : «لنسلم » ، إذ كانت اللام التي في قوله : «لنسلم » ، لاما لا تصحب إلاّ المستقبل من الأفعال ، وكانت «أن » من الحروف التي تدلّ على الاستقبال دلالة اللام التي في «لنسلم » ، فعطف بها عليها لاتفاق معنييهما فيما ذكرت ف «أن » في موضع نصب بالردّ على اللام . وكان بعض نحويي البصرة يقول : إما أن يكون ذلك : أمرنا لنسلم لربّ العالمين ، وأن أقيموا الصلاة ، يقول : أمرنا كي نسلم ، كما قال : وأُمِرْتُ أنْ أكُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ : أي إنما أمرت بذلك ، ثم قال : وأنْ أقِيمُوا الصّلاةَ واتقوه : أي أُمِرْنا أن أقيموا الصلاة أو يكون أوصل الفعل باللام ، والمعنى : أمرت أن أكون ، كما أوصل الفعل باللام في قوله : هُمْ لرَبّهِمْ يَرْهَبُونَ . فتأويل الكلام : وأمرنا بإقامة الصلاة ، وذلك أداؤها بحدودها التي فرضت علينا . وَاتّقُوهُ يقول : واتقوا ربّ العالمين الذي أمرنا أن نسلم له ، فخافوه واحذروا سخطه بأداء الصلاة المفروضة عليكم والإذعان له بالطاعة وإخلاص العبادة له . وَهُوَ الّذِي إلَيْهِ تُحْشَرُونَ يقول : وربكم ربّ العالمين هو الذي إليه تحشرون فتجمعون يوم القيامة ، فيجازي كلّ عامل منكم بعمله ، وتوفّى كل نفس ما كسبت .
{ وأن أقيموا الصلاة واتقوه } عطف على لنسلم أي للإسلام ولإقامة الصلاة ، أو على موقعه كأنه قيل : وأمرنا أن نسلم أو أقيم الصلاة . روي : أن عبد الرحمن بن أبي بكر دعا أباه إلى عبادة الأوثان ، فنزلت . وعلى هذا كان أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا القول إجابة عن الصديق رضي الله تعالى عنه تعظيما لشأنه وإظهارا للاتحاد الذي كان بينهما . { وهو الذي إليه تحشرون } يوم القيامة .
{ وأن أقيموا } يتجه أن يكون بتأويل وإقامة فهو عطف على المفعول المقدر في { أمرنا } [ الأنعام : 71 ] ، وقيل بل هو معطوف على قوله { لنسلم } [ الأنعام : 71 ] تقديره لأن نسلم { وأن أقيموا } .
قال القاضي أبو محمد : وهذا قول الزجاج واللفظ يمانعه وذلك أن قوله «لأن نسلم » معرب ، وقوله { أن أقيموا } مبني وعطف المبني على المعرب لا يجوز لأن العطف يقتضي التشريك في العامل اللهم إلا أن تجعل العطف في «أن » وحدها وذلك قلق وإنما يتخرج على أن يقدر قوله { وأن أقيموا } بمعنى لنقيم ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالة اللفظ فجاز العطف على أن يلغى حكم اللفظ ويعول على المعنى ، ويشبه هذا من جهة «ما » ما حكاه يونس عن العرب : أدخلوا الأول فالأول بالنصب{[4974]} ، وقال الزجّاج أيضاً : يحتمل أن يكون { وأن أقيموا } معطوفاً على { ائتنا } [ الأنعام : 71 ] .
قال القاضي أبو محمد : وفيه بعد ، والضمير في قوله { واتقوه } عائد على رب العالمين { وهو } ابتداء وما بعده وهو لفظ خبر يتضمن التنبيه والتخويف .