المقصود من هذه الآية الرَّدُّ على عبدةِ الأصنام ، وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك : { قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ } [ الأنعام :56 ] .
فقوله : { أَنَدْعُوا مِن دُونِ اللَّهِ } أي : أنعبد من دون الله النَّافِعِ الضَّارِّ ما لا يَقْدرُ على نَفْعِنَا إن عبدناهُ ، ولا على ضرنا إن تركناه .
قوله : " أنّدْعُوا " استفهام توبيخ وإنكار ، والجملة في مَحَلِّ نصب بالقول ، و " ما " مفعولة ب " ندعوا " ، وهي موصولة أو نكرة موصوفة ، و{ مِن دُونِ اللَّهِ } متعلِّقٌ ب " ندعوا " .
قال أبو البقاء{[14214]} : " ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في " يَنْفَعُنَا " ولا معمولاً ل " يَنْفَعُنَا " لتقدُّمهِ على " ما " ، والصلة والصفة لا تَعْملُ فيما قبل الموصول والموصوف .
قوله : " من الضمير في يَنْفعنَا " يعني به المرفوع العائد على " ما " وقوله : " لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف " يعني : أن " ما " لا تخرج عن هذين القسمين ولكن يجوز أن يكون " من دون " حالاً من " ما " نفسها على قوله ؛ إذ لم يجعل المانع من جعله حالاً من ضميره الذي في " يَنْفَعُنَا " إلاَّ صِناعِياً لا معنوياً ، ولا فرق بين الظاهر وضميره بمعنى أنه إذا جازَ أن يكون حالاً من ظاهره ، جاز أن يكون حالاً من ضميره ، إلا أن يمنع مَانِعٌ .
قوله : " ونُرَدُّ " فيه وجهان :
أظهرهما : أنه نَسَقٌ على " نَدْعُوا " فهو داخل في حيِّز الاستفهام المُتَسَلِّطِ عليه القَوْلُ .
الثاني : أنه حالٌ على إضمار مبتدأ ؛ أي : ونحن نُرَدُّ .
قال أبو حيَّان{[14215]} بعد نقله هنا عن أبي البقاء : " وهو ضعيف لإضمار المبتدأ ، ولأنها تكون حالاً مؤكّدة " ، وفي كونها مؤكدة نظرٌ ؛ لأن المؤكدة ما فهم معناها من الأوَّلِ ، وكأنه يقول : من لازم الدعاء " من دون الله " الارتداد على العقب .
قوله : " عَلى أعْقَابِنَا " فيه وجهان :
أحدهما : أنه معلّق ب " نُرَدُّ " .
والثاني : أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حال من مرفوع " نرد " أي : نرد راجعين على أعْقابنا ، أو منقلبين ، أو متأخرين كذا قدَّرُوهُ ، وهو تفسير معنى ؛ إذا المُقَدَّرُ في مثله كونٌ مُطلقٌ ، وهذا يحتمل أن يقال فيه : إنه حال مؤكدة ، و " بعد إذ " مُتعلِّقٌ ب " نُرَدُّ " .
[ ومعنى الآية : ونرد على أعقابنا إلى الشِّرْكِ مرتدين بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام .
يقال لكل من أعْرَضَ عن الحق إلى الباطل : إنه رجع إلى خَلْفٍ ، ورجع على عَقِبَيْهِ ، ورجع القَهْقَرى ؛ لأن الأصل في الإنسان الجَهْلُ ثم يترقى ويتعلم حتى يتكامل ، ويحصل له العلم .
قال تعالى : { وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ } [ النحل :78 ] فإذا رجع من العِلْمِ إلى الجَهْلِ مرة أخرى ، فكأنه رجع إلى أوَّل أمره ، فلهذا السبب يقال : فلان رُدَّ على عقبيه ]{[14216]} .
قوله { كالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ } في هذه الكاف وجهان :
أحدهما : أنه نَعْتُ مصدرٍ محذوف ؛ أي : نُرَدُّ رَدَّاً مثل ردِّ الذين .
الثاني : في مَحَلّ نصب على الحال من مرفوع " نرد " ، أي : نرد مُشْبهينَ الذي استهوته الشياطين ، فمن جوَّز تعدُّدَ الحالِ جعلها حالاً ثانية ، إن جعل " على أعقابنا " حالاً ، ومن لم يُجَوِّزْ ذلك جعل هذه الحال بدلاً من الحال الأولى ، أو لم يجعل على أعقابنا حالاً ، بل معلّقاً ب " نرد " . الجمهور على{[14217]} " اسْتهْوتْهُ " بتاء التأنيث ، وحمزة{[14218]} " اسْتَهْوَاهُ " وهو على قاعدته من الإمالة ، والوجهان معروفان مما تقدم في { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } [ الأنعام :61 ] وقرأ{[14219]} أبو عبد الرحمان والأعمش : " اسْتَهْوَتْهُ الشَّيْطانُ " بتأنيث الفعل ، والشيطان مفرداً .
قال الكسائي{[14220]} : " وهي كذلك في مصحف ابن مسعود " ، وتوجيه هذه القراءة أنَّا نُؤوِّل المذكر بمؤنث كقولهم : " أتته كتابي فاحتقرها " ؛ أي : صحيفتي ، وتقدَّم له نظائر .
وقرأ الحسن البصري{[14221]} : " الشَّيَاطُون " وجعلوها لَحْناً ، ولا تَصِلُ إلى اللَّحْنِ ، إلا أنها لُغَيّةٌ رديئة ، سُمِع : حول بستان فلان بساتون وله سلاطون ، ويُحْكَى أنه لما حكيت قراءة الحسن لَحَّنَهُ بعضهم ، فقال الفراء{[14222]} : " أي والله يُلحِّنُون الشيخ ، ويستشهدون بقول رؤبة " . ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك .
والمراد ب " الَّذي " الجِنْسُ ، ويحتمل أن يراد به الواحد الفَذُّ .
قوله : " في الأرْضِ " فيه أربعة أوجه :
أحدها : أنه مُتعلِّق بقوله : " اسْتَهْوتْهُ " .
الثاني : أنه حالٌ من مفعول " اسْتَهْوَتْهُ " .
الثالث : أنه حالٌ من " حيران " .
الرابع : أنه حالٌ من الضمير المُسْتَكِنّ في " حيران " ، و " حيران " حال إما من " هاء " " استهوته " على أنها بدلٌ من الأولى ، وعند من يجيز تعدُّدَهَا ، وإما من " الَّذِي " ، وإما من الضمير المستكن في الظرف ، و " حيران " مؤنثه " حيرى " ، فلذلك لم يَنْصَرِفُ ، والفعل حَارَ يَحَارُ حَيْرةً وحَيَراناً وحَيْرورةً ، و " الحيران " المُتَرَدِّدُ في الأمر لا يهتدي إلى مَخْرَجٍ .
وفي اشتقاق " اسْتَهْوَتْهُ " قولان :
الأول : أنه مشتق من الهُوِيِّ في الأرض ، وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة [ السافلة ]{[14223]} العميقة [ في قعر الأرض ]{[14224]} فشبه الله تعالى حال هذا الضَّالِّ به ، كقوله : { وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ } [ الحج :31 ] ولا شك أن الإنسان حال هُويِّهِ من المكان العالي إلى الوهْدةِ العميقة يكون في غايةِ الاضْطرابِ والدهشة والحيرةِ .
والثاني : أنه مُشْتَقٌ من اتِّباعِ الهَوَى والميل ، فإنه من كان كذلك ، فإنه ربما بلغ النهاية في الحَيْرَةِ .
واعلم أن هذا المثل في غاية الحُسْنِ ؛ لأن الذي يَهْوِي من المكان العالي إلى الوَهْدَةِ العميقة ، يحصل له كمال التَّرَدُّدِ والدهشة والحيرة ؛ لأنه لا يعرف أي موضع يزداد بلاَؤهُ بسبب سقوطه عليه أو يَقِلُّ{[14225]} .
قوله " لَهُ أصْحَابٌ " جملة في مَحَلّ نصب صفة ل " حيران " ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في " حيران " ، وأن تكون مستأنفة{[14226]} ، و " إلى الهدى " متعلقة ب " يدعونه " ، وفي مصحف ابن مسعود وقراءته : " أتينا " بصيغة الماضي ، و " إلى الهدى " على هذه القراءة متعلّق به ، وعلى قراءة الجمهور ، فالجملة الأمرية في محل نصب بقول مضمر أي يقولون : ائتنا والقول المضمر في محل صفة لأصحاب وكذلك " يدعونه " . قالوا : نزلت هذه الآية في عبد الرحمان بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه فإنه كان يدعو أبَاهُ إلى الكُفْرِ ، وأبوه يدعوه إلى الإيمان .
وقيل : المراد أن لذلك الكافر الضَّالِّ أصحاباً يدعونه إلى ذلك الضَّلالِ ، ويسمونه بأنه هو الهدى ، والصحيح الأوَّل .
ثم قال تعالى : { إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى } يَزْجُرُ بذلك عن عبادة الأصنام ، كأنه يقول : لا تفعل ذلك ، فإن الهُدَى هُدَى الله لا هادي غيره . قوله : " وأمِرْنَا لِنُسْلِمَ " في هذه " اللام " أقوال :
أحدها : وهو مذهب سيبويه{[14227]} أن هذه اللام بعد الإرادة والأمر وشبههما مُتعلِّقةٌ بمحذوف على أنها خبر للمبتدأ ، وذلك المبتدأ هو مصدرٌ من ذلك الفعل المتقدم ، فإذا قلت : أردت لتقوم وأمرت زيداً ليذهب ، كان التقدير : الإرادة للقيام ، والأمر للذَّهاب ، كذا نقل أبو حيَّان{[14228]} ذلك عن سيبويه وأصحابه ، وفيه ضَعْفٌ تقدَّم في سورة النساء عند قوله : { يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ }
الثاني : أن مفعول الأمر والإرادة محذوف ، وتقديره : وأمرنا بالإخلاص لنسلم .
الثالث : قال الزمخشري{[14229]} : هي تَعْلِيلٌ للأمر بمعنى أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم .
الرابع : أن " اللام " زائدة ؛ أي : أمرنا أن نسلم .
الخامس : أنها بمعنى " الباء " أي بأن نسلم .
السادس : أن " اللام " وما بعدها مفعول الأمر واقعة موقع " أن " أي : أنهما مُتعاقِبَانِ ، فتقول : أمرتك لتقوم ، وأن تقوم ، وهذا مذهب الكوفيين .
وقال ابن عطية{[14230]} : ومذهب سبيويه أن " لِنُسْلِمَ " في موضع المفعول ، وأن قولك : أمرت لأقوم وأن أقوم بجريان سواءً وقال الشاعر : [ الطويل ]
أُرِيدُ لأنْسَى حُبَّهَا فَكَأنَّمَا *** تَمثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ{[14231]}
وهذا ليس مذهب سيبويه ، إنما مذهبه ما تقدَّم تحقيقه في " سورة النساء " .
قوله " وأنْ أقِيمُوا " فيه أقوال :
أحدها : أنها في مَحَلِّ نصب بالقول نَسَقاً على قوله : { إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى } أي : قل هذين الشيئين .
والثاني : أنه نَسَقٌ على " لنسلم " أي : وأمرنا بكذا للإسلام ، ولنقيم الصلاة ، و " أن " تُوصل بالأمر كقولهم : كتب إليه بأن قم ، حكاه سيبويه{[14232]} وهذا رَأيُ الزَّجَّاج{[14233]} .
والثالث : أنه نَسَقٌ على " ائْتِنَا " قال مكي{[14234]} : لأن معناه : " أن ائتنا " ، وهو غير ظاهر .
والرابع : أنه مَعْطُوفٌ على مفعول الأمر المقدر ، والتقدير : وأمرنا بالإيمان ، وبإقامة الصلاة قاله ابن عطية{[14235]} .
قال أبو حيَّان{[14236]} : وهذا لا بأس به ، إذ لا بُدَّ من تقدير المفعول الثاني ل " أمرنا " ويجوز حذف المعطوف عليه لِفَهْمِ المعنى ؛ تقول : أضَرَبْتَ زيداً ؟ فتجيب نعم وعمراً ؛ التقدير : ضربته وعمراً .
وقد أجاز الفراء : " جاءني الذي وزيد قائمان " ، التقدير : الذي هو وزيد قائمان ، فحذف " هو " لدلالة المعنى عليه ، وهذا الذي قاله أنه لا بأس به ليس من أصول البصريين .
و " أما نعم وعمراً " فلا دلالة فيه ؛ لأن " نعم " قامت مقام الجملة المحذوفة .
وقال مكي{[14237]} قريباً من هذا القول ، إلاَّ أنه لم يُصَرِّحْ بحذف المعطوف عليه ، فإنه قال : و " أن " في موضع نَصْب بحذف الجارِّ ، تقديره : وبأنْ أقيموا ، فقوله : وبأن أقيموا هو معنى قول ابن عطية ، إلاَّ أن ذلك [ أوضحه ]{[14238]} بحذف المعطوف عليه .
وقال الزمخشري{[14239]} : فإن قلت : علام عطف قوله : " وأن أقيموا " ؟ قلت : على موضع " لنسلم " كأنه قيل : وأمرنا أن نسلم ، وأن أقيموا .
قال أبو حيَّان{[14240]} : وظاهر هذا التقدير أن " لنسلم " في موضع المفعُولِ الثاني ل " أمرنا " وعطف عليه : " وأن أقيموا " فتكون اللام على هذا زَائِدَةً ، وكان قد تقدَّم قبل هذا أن " اللام " تعليل للأمر ، فتناقض كلامه ؛ لأن ما يكون عِلَّةً يستحيل أن يكون مفعولاً ، ويدلُّ على أنه أراد بقوله : " أن نسلم " في موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك : ويجوز أن يكون التقدير : وأمرنا لأن نسلم ، ولأن أقيموا ، أي للإسلام ولإقامة الصلاة ، وهذا قول الزَّجَّاجِ ، فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأوَّل لاتَّحَدَ قَوْلاَهُ ، وذلك خُلْفٌ .
قال الزَّجَّاج{[14241]} : " أن أقيموا " عطف على قوله : " لنسلم " ، تقديره : وأمرنا لأن نسلم ، وأن أقيموا .
قال ابن عطية{[14242]} : واللَّفْظُ يُمانِعُهُ ، لأن " نسلم " معرب ، و " أقيموا " مبني ، وعطف المبني على المعرب لا يجوز ، لأن العطف يقتضي التَّشْرِيكَ في العامل .
قال أبو حيان{[14243]} : وما ذكر من أنه لا يعطف المبني على المعرب ليس كما ذكر ، بل يجوز ذلك نحو : " قام زيد وهذا " ، وقال تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } [ هود :98 ] غَايَةُ ما في الباب أن العامل يُؤثِّرُ في المعرب ، ولا يُؤثِّرُ في المبني ، وتقول : " إن قام زيد ويقصدني أكرمه " ، ف " إن " لم تُؤثِّرْ في " قام " ؛ لأنه مبني ، وأثرت في " يقصدني " ؛ لأنه معرب ثم قال ابن عطية{[14244]} : " اللهم إلا أن تجعل العطف في " إن " وحدها ، وذلك قلق ، وإنما يَتَخَرَّجُ على أن يقدر قوله : " وأن أقيموا " بمعنى " ولنقم " ، ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالةِ اللفظ ، فجاز العطفُ على أن يلغى حكم اللفظ ، ويعول على المعنى ، ويشبه هذا من جهة ما حكاهُ يونس عن العرب : ادخلوا الأوَّل فالأوَّل ، وإلا فلا يجوز إلاَّ الأول فالأوَّل بالنصب " .
قال أبو حيَّان{[14245]} : وهذا الذي استدركه بقوله : " اللهم إلا " إلى آخره هو الذي أراده الزَّجَّاج بعينه ، وهو " أن أقيموا " معطوف على " أن نسلم " ، وأن كليهما عِلَّةٌ للمأمور به المحذوف ، وإنما قلق عند ابن عطية ؛ لأنه أراد بقاء " أن أقيموا " على معناها من موضوع الأمر ، وليس كذلك ؛ لأن " أنْ " إذا دخلت على فعل الأمر ، وكانت المصْدَرِيَّةَ انْسَبَكَ منها ومن الأمر مصدر ، وإذا انْسَبَكَ منهما مصدر زال معنى الأمر ، وقد أجاز النحويون سيبويه وغيره أن تُوصَلَ " أن " المصدرية الناصبة للمضارع بالماضي والأمر .
قال سيبويه{[14246]} : وتقول : كتبت إليه بأن قم ، أي بالقيام ، فإذا كان الحكم كذا كان قوله : " لنسلم " و " أن أقيموا " في تقدير الإسلام ولإقامة الصلاة ، وأما تشبيه ابن عطيَّة له بقوله : ادخلوا الأوَّل فالأول : بالرفع ، فليس بتشبيه ؛ لأن ادخلوا لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلَّطَ على ما بعده ، بخلاف " أنْ " فإنها تُوصَلُ بالأمرِ ، فإذن لا شبه بينهما انتهى .
أما قول أبي حيَّان{[14247]} : " وإنما قلق عند ابن عطية{[14248]} ؛ لأنه أراد بقاء " أنْ أقيموا " على معناها من موضوع الأمر " ، فليس القلقُ عنده لذلك فقط كما حصره الشيخ ، بل لأمر آخر من جهة اللفظ ، وهو أن السِّيَاقَ التَّرْكِيبِيَّ يقتضي على ما قاله الزجاج أن يكون " لنسلم وأن نقيم " ، فتأتي في الفعل الثاني بضمير المتكلم ، فلما لم يقل ذلك قلق عنده ، ويدلُّ على [ ما ذكرته ]{[14249]} قول ابن عطية{[14250]} : " بمعنى : ولنقم ثم خرجت بلفظ الأمر " إلى آخره .
والخامس : أنه مَحْمُولٌ على المعنى ؛ إذا المعنى قيل لنا : أسْلِمُوا وأن أقيموا .
وقال الزجاج{[14251]} : فإن قيل : كيف حَسُنَ عطف قوله : { وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ } على قوله { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } ؟
الأول : أن يكون التقدير : وأمرنا لنسلم لرب العالمين ، ولأن نقيم الصلاة .
الثاني : أن يكون التقدير : وأمرنا فقيل لنا أسلموا لربِّ العالمين ، وأقيموا الصَّلاة .
فإن قيل : هَبْ أن المُرَادَ ما ذكرتم ، لكن ما الحِكْمَةُ في العُدُولِ عن هذا اللَّفْظِ الظَّاهِرِ ، والتركيب الموافق للعقل إلى ذلك اللفظ الذي لا يهتدي العقل إلى معناه ، إلاَّ بالتأويل ؟ ! .
فالجواب : لأن الكافر ما دام [ يبقى ]{[14252]} على كُفْرِهِ كان كالغَائبِ الأجنبي ، فلا جرم خُوطِبَ بخطاب الغائبين ، فيقال له : { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ } فإذا أسلم [ وآمن ]{[14253]} ودخل في الإيمان صار كالقريب الحاضر ، فلا جرمَ خُوطِبَ بخطاب الحاضرين ، ويقال له { وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ } فالمقصود من ذِكْرِ هذين النوعين من الخطاب للتنبيه على الفَرْقِ بين حالتي الكُفْرِ والإيمان ، وتقريره أن الكافر بعيد غائب ، والمؤمن قريب حاضر .
فصل في أنه لا هدى إلا هدى الله
اعلم أن الله -تعالى- لما بيَّن أوَّلاً أن الهُدَى النافع هو هدى الله ، أرْدَفَ ذلك الكلام الكُلِّيَّ بِذكْرِ أشرف أقْسَامِهِ على الترتيب ، وهو الإسلام ، وهو رئيس الطاعات الروحانية ، والصلاة التي هي رَئِيسَةُ الطاعات الجِسْمَانِيَّةِ ، والتقوى التي هي رئيسة باب التروك والاحتراز عن كل ما لا ينبغي ، ثم بيَّن منافع هذه الأعمال ، فقال : { وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } يعني أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر .