الدر المصون في علم الكتاب المكنون للسمين الحلبي - السمين الحلبي  
{وَأَنۡ أَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَٱتَّقُوهُۚ وَهُوَ ٱلَّذِيٓ إِلَيۡهِ تُحۡشَرُونَ} (72)

قوله تعالى : { وَأَنْ أَقِيمُواْ } : فيه أقوال أحدها : أنها في محل نصب بالقول نسقاً على قوله : إنَّ هُدَى الله هو الهدى أي : قل هذين الشيئين . والثاني : أنه نسقٌ على " لِنُسْلَم " والتقدير : وأمرنا بكذا للإِسلام ولنقيم الصلاة ، و " أن " توصل بالأمر كقولهم : " كتبت إليه بأن قم " حكاه سيبويه وهذا رأي الزجاج ، والثالث : أنه نسق على " ائتنا " قال مكي : " لأن معناه أن ائتنا " وهو غير ظاهر . والرابع : أنه معطوف على مفعول الأمر المقدَّر والتقدير : وأُمِرْنا بالإِيمان وبإقامة الصلاة ، قاله ابن عيطة .

قال الشيخ : " وهذا لا بأسَ به إذ لا بد من التقدير المفعول الثاني ل " أُمِرْنا " ويجوز حَذْفُ المعطوف عليه لفهم المعنى ، تقول : أضربت زيداً ؟ فيجيب : نعم وعمراً ، التقدير : ضربته وعمراً . وقد أجاز الفراء : " جاءني الذي وزيد قائمان " التقدير : الذي هو وزيدٌ قائمان ، فحذف " هو " لدلالة المعنى عليه " وهذا الذي قال إنه لا بأس به ليس من أصول البصريين . وأمَّا " نَعَمْ وعَمْراً " فلا دلالة فيه لأنَّ " نَعَمْ " قامَتْ مقامَ الجملة المحذوفة . وقال مكي قريباً من هذا القول إلا أنه لم يُصَرِّحْ بحذف المعطوف عليه فإنه قال : " وأن في موضع نصب بحذفِ الجارِّ تقديرُه : وبأَنْ أَقيموا " فقوله : وبأن أقيموا هو معنى قول ابنِ عطية ، إلا أن ذاك أوضحه بحذف المعطوف عليه .

وقال الزمخشري : " فإن قلت : علام عطف قوله { وَأَنْ أَقِيمُواْ } ؟ قلت : على موضع " لِنُسْلِمَ " كأنه قيل : وأُمِرْنا أن نسلم وأن أقيموا " قال الشيخ : " وظاهر هذا التقدير أنَّ " لنسلم " في موضع المفعول الثاني ل " أُمِرْنا " وعُطِفَ عليه " وأَنْ أقيموا " فتكون اللام على هذا زائدة وكان قد قدَّم قبل هذا أن اللام تعليل للأمر فتناقض كلامه ، لأن ما يكون علةً يستحيل أن يكون مفعولاً ويدل على أنه أراد بقوله : " أن نسلَم في موضع المفعول الثاني " قوله بعد ذلك " ويجوز أن يكونَ التقديرُ : وأُمِرْنا لأن نسلم ولأن أقيموا أي للإِسلام ولإِقامة الصلاة ، وهذا قول الزجاج ، فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأول لاتَّحد قولاه وذلك خُلْف " .

وقال الزجاج : " أن أقيموا عطف على قوله " لِنُسْلِمَ " تقديره : وأُمِرْنا لأن نُسْلِمَ وأن أقيموا " قال ابن عطية : " واللفظ يمانعه لأنَّ " نُسْلِمَ " مُعْربٌ و " أقيموا " مبني وعطف المبنيِّ على المعرب لا يجوز ؛ لأنَّ العطفَ يقتضي التشريك في العامل " .

قال الشيخ " وما ذُكِرَ من أنه لا يُعْطف المبني على المعرب ليس كما ذكر ، بل يجوز ذلك نحو : " قام زيد وهذا " وقال تعالى : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ } [ هود : 98 ] ، غاية ما في الباب أنَّ العمل يؤثر في المعرب ولا يؤثر في المبني ، وتقول : " إنْ قام زيد ويقصدْني أُكرمه " ف " إن " لم تؤثر في " قام " لأنه مبنيٌّ وأثَّرت في " يقصِدْني " لأنه معرب " ثم قال ابن عطية : " اللَّهم إلا أن تجعل العطف في " إنْ " وحدها ، وذلك قلق ، وإنما يتخرَّج على أن يقدَّر قوله " وأن أقيموا " بمعنى " ولنقم " ثم خرجَتْ بلفظ الأمرِ لما في ذلك جزالةِ اللفظ ، فجاز العطف على أن يُلغى حكم اللفظ ويُعَوَّلَ على المعنى ، ويُشْبه هذا من جهةِ ماحكاه يونس عن العرب : " ادخلوا الأول فالأول " وإلاَّ فلا يجوز إلا : الأولَ فالأولَ بالنصب "

قال الشيخ : " وهذا الذي استدركه بقوله " اللهم إلا " إلى آخره هو الذي أراده الزجاج بعينه ، وهو أنَّ " أَنْ أقيموا " معطوفٌ على " أن نُسْلِمَ " وأنَّ كليهما علة للمأمور به المحذوف ؛ وإنما قلق عند ابن عطية لأنه أراد بقاء " أن أقيموا " على معناها من موضوع الأمر وليس كذلك ، لأنَّ " أَنْ " إذا دخلت على فعل الأمر وكانت المصدرية انسبك منها ومن الأمر مصدر ، وإذا انسبك منهما مصدر زال معنى الأمر ، وقد أجاز النحويون سيبوبه وغيره أن تُوْصَلَ أَنْ المصدرية الناصبةُ للمضارع بالماضي والأمر . قال سيبويه : " وتقول : كتبت إليه بأَنْ قم ، أي بالقيام " فإذا كان الحكم كذا كان قوله " لنُسْلِمَ و " أَنْ أقيموا " في تقدير : للإِسلام ولإِقامة الصلاة ، وأمَّا تشبيه ابن عطية له بقوله : " ادخلوا الأولُ فالأولُ " بالرفع فليس بشبيهٍ لأن " ادخلوا " لا يمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلط على ما بعده بخلاف " أَنْ " فإنها توصلُ بالأمر فإذن لا شبه بينهما " انتهى .

أمَّا قولُ الشيخ " وإنما قَلِقَ عند ابن عطية لأنه أراد بقاء " أَنْ أقيموا " على معناها من موضوع الأمر " فليس القلقُ عنده لذلك فقط كما حصره الشيخ ، بل لأمرٍ آخر من جهة اللفظ وهو أنَّ السِّياقَ التركيبي يقتضي على ما قاله الزجاج أن يكون " لنسلم " وأن نقيم ، فتأتي في الفعل الثاني بضمير فلما لم يقل ذلك قلق عنده ، ويدلُّ على ما ذكرته قول ابن عطية " بمعنى ولنقم ، ثم خرجت بلفظ الأمر " إلا آخره .

والخامس : أنه محمول على المعنى ، إذ المعنى : قيل لنا : أسْلِموا وأن أقيموا .