قوله تعالى : { قال كم لبثتم } قرأ حمزة و الكسائي : قل كم وقل إن على الأمر والنهي . ومعنى الآية : قولوا أيها الكافرون ، فأخرج الكلام مخرج الواحد ، والمراد منه الجماعة ، إذ كان معناه مفهوماً ، ويجوز أن يكون الخطاب لكل واحد منهم ، أي قل أيها الكافرون ، وقرأ ابن كثير : قل كم ، على الأمر ، وقال ( ( إن ) ) على الخبر ، لأن الثانية جواب ، وقرأ الآخرون : قال فيهما جميعاً ، أي : قال الله عز وجل للكفار يوم البعث : كم لبثتم ؟ { في الأرض } أي : في الدنيا وفي القبور . { عدد سنين* }
وبعد هذا الرد الذى فيه ما فيه من الزجر للكافرين ، وبعد بيان أسبابه ، وما اشتمل عليه من تبكيت وتقريع ، يوجه إليهم - سبحانه - سؤالا يزيدهم حسرة على حسرتهم ، فيقول : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ . . } .
أى : قال الله - تعالى - لهم بعد أن زجرهم وأمرهم أن يسكتوا سكوت هوان وذلة : كم عدد السنين التى لبثتموها فى دنياكم التى تريدون الرجوع إليها ؟
ولا شك أن الله - تعالى - يعلم مقدار الزمن الذى لبثوه ، ولكنه سألهم ليبين لهم قصر أيام الدنيا ، بالنسبة لما هم فيه من عذاب مقيم ، وليزيد فى حسرتهم وتوبيخهم .
وبعد هذا الرد القاسي المهين ، وبيان أسبابه ، وما في هذا البيان من ترذيل وتبكيت . . يبدأ استجواب جديد :
( قال : كم لبثتم في الأرض عدد سنين ? ) . .
وإن الله - سبحانه - ليعلم . ولكنه سؤال لاستصغار أمر الأرض ، واستقصار أيامهم فيها ، وقد باعوا بها حياة الخلود . . وإنهم ليحسون اليوم بقصر تلك الحياة وضآلتها . وإنهم ليائسون ضيقو الصدر ، لا يعنيهم حسابها وعدتها :
يقول تعالى منبها لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده ، ولو صَبَروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون ، { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ } أي : كم كانت إقامتكم في الدنيا ؟ { قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ } أي : الحاسبين
{ قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا } أي : مدة يسيرة على كل تقدير { لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي : لما آثرتم الفاني على الباقي ، ولما تَصَرَّفتم لأنفسكم هذا التصرف السّيئ ، ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة ، ولو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته{[20698]} - كما فعل المؤمنون - لفزتم كما فازوا .
قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الوَزير ، حدثنا الوليد ، حدثنا صفوان ، عن أيفع بن عبد الكَلاعي ؛ أنه سمعه يخطب الناس فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، قال : يا أهل الجنة ، كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا يوما أو بعض يوم . قال : لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم : رحمتي ورضواني وجنتي ، امكثوا فيها خالدين مخلدين ؟ ثم يقول : يا أهل النار ، كم لبثتم في الأرض عدد سنين ؟ قالوا : لبثنا يومًا أو بعض يوم . فيقول : بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم : ناري وسخطي ، امكثوا فيها خالدين مخلدين " {[20699]} .
القول في تأويل قوله تعالى : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَآدّينَ } .
اختلفت القرّاء في قراءة قوله : كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ ، وفي قوله : لَبِثْنا يَوما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة على وجه الخبر : قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ ، وكذلك قوله : قالَ إنْ لَبِثْتُمْ . ووجّه هؤلاء تأويل الكلام إلى أن الله قال لهؤلاء الأشقياء من أهل النار وهم في النار : كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرْضِ عَدَدَ سِنِينَ وأنهم أجابوا الله فقالوا : لَبِثْنا يَوْما أوْ بَعْضَ يَوْمٍ ، فنسي الأشقياء ، لعظيم ما هم فيه من البلاء والعذاب ، مدة مكثهم التي كانت في الدنيا ، وقَصُر عندهم أمد مكثهم الذي كان فيها ، لما حلّ بهم من نقمة الله ، حتى حسبوا أنهم لم يكونوا مكثوا فيها إلا يوما أو بعض يوم ، ولعلّ بعضهم كان قد مكث فيها الزمان الطويل والسنين الكثيرة .
وقرأ ذلك عامة قرّاء أهل الكوفة على وجه الأمر لهم بالقول ، كأنه قال لهم قولوا كم لبثتم في الأرض ؟ وأخرج الكلام مُخْرج الأمر للواحد والمعنيّ به الجماعة ، إذ كان مفهوما معناه . وإنما اختار هذه القراءة من اختارها من أهل الكوفة لأن ذلك في مصاحفهم : «قُلْ » بغير ألف ، وفي غر مصاحفهم بالألف .
وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأ ذلك : قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ على وجه الخبر ، لأن وجه الكلام لو كان ذلك أمرا ، أن يكون «قُولوا » على وجه الخطاب للجمع لأن الخطاب فيما قبل ذلك وبعده جرى لجماعة أهل النار ، فالذي هو أولى أن يكون كذلك قوله : «قولوا » لو كان الكلام جاء على وجه الأمر ، وإن كان الاَخر جائزا ، أعني التوحيد ، لما بيّنت من العلة لقارىء ذلك كذلك ، وجاء الكلام بالتوحيد في قراءة جميع القرّاء ، كان معلوما أن قراءة ذلك على وجه الخبر عن الواحد أشبه ، إذْ كان ذلك هو الفصيح المعروف من كلام العرب . فإذا كان ذلك ذلك ، فتأويل الكلام : قال الله كم لبثتم في الدنيا من عدد سنين ؟ قالوا مجيبين له : لبثنا فيها يوما أو بعض يوم فاسأل العادّين ، لأنا لا ندري ، قد نسينا ذلك .
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بالعادّين ، فقال بعضهم : هم الملائكة الذين يحفظون أعمال بني آدم ويُحْصُون عليهم ساعاتهم . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : فاسأَلِ العادّينَ قال : الملائكة .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : بل هم الحُسّاب . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قَتادة : فاسأَلِ العادّينَ قال : فاسأل الحُسّاب .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة : فاسأَلِ العادّينَ قال : فاسأل أهل الحساب .
وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال كما قال الله جلّ ثناؤه : فاسأَلِ العادّينَ وهم الذين يَعُدّون عدد الشهور والسنين وغير ذلك . وجائز أن يكونوا الملائكة ، وجائز أن يكونوا بني آدم وغيرهم ، ولا حجة بأيّ ذلك من أيّ ثبتت صحتها فغير جائز توجيه معنى ذلك إلى بعض العادّين دون بعض .